نصّ يشابه جرحاً مفتوحاً .. بقلم: نجاح إبراهيم

نصّ يشابه جرحاً مفتوحاً .. بقلم: نجاح إبراهيم

تحليل وآراء

الخميس، ٢٨ يناير ٢٠١٦

"فوهة"                                   
أيّها الكرديُّ المترع بالجراح كقلبي، إنْ كنت مثقلاً بها، فاحذُ حذو"كاوا" فهو صديقها، مؤرثها وخامدها.
أتراك نسيته؟!
التمسْ رؤوس الجبال تجده، إياك أنْ تسلس القياد للمنافي الباردة، لأنك ستظلُّ مرتعشاً.
"العمق"
هل لقصيدة أن تحملَ في تضاريس حروفها، ماءً وناراً، مطراً وظمأ، خوفاً وأماناً، موتاً وحياة، حلماً وانكساراً، عمقاً ثرياً بالأسرار وتلالاً مكشوفة كراحة يد؟
وهل لشاعر أن يركض من منفى إلى آخر، متلمّساً فهماً له؟
في ديوان "وسيلة لفهم المنافي" للشاعر الكرديّ "لقمان محمود" تجد كلّ ذلك، كما تجدُ شخصاً ناضجاً يقرأ العالم جيداً، يقرأ أشياءه بأصابعه، وأحاسيسه، بل بأهداب عينيه، فيُشحن حتى يستحيل فيضاً، غنىً. لا يستكين شعره لدلالة أحادية، لأنه عميق عمق جرح عمره ألف عام، كلّ طبقة تختلف طعماً ورائحة ولوناً عن الأخرى.
 وكلما غاصَ القارئ أكثر وجدَ شيئاً مختلفاً، فيزداد دهشة وخوفاً لأنّ النصّ يراوغه، يستفزّه ليتلقى أكثر مما تشي به الألفاظ.
" أعرف أنّ شجرتي مرضت /لكنها خالدة، لا تموت /هي / فقط
تعرّت من ثيابها الخضراء."
في قراءة القصائد من الديوان، يقف الشاعر معبّأ بشاعريته، وأناقة وجعه النبيل، تنابع من جرح لوطنه المكلوم، جرح بارز وعميق، يحلم بالالتئام.
ولقمان محمود، يُجيد تأمل جرحه، ورثاءه. تسعفه شاعريته الثرّة، المتقنة بذلك، إذ تنبثق عن مخيلة غنيّة استمدّت وهجها من احتفاءات أعياد النوروز، مخيلة باهرة ورائعة كالله البهيّ على عرشه، لتقدّم ألف سرّ في جرح:
" فوق العذاب القديم /ينمو العذاب الجديد/عذاب /ثقيل /تراب ثقيل
انهض من موتي / كل يوم
أكثر موتاً."
ثمّة تكرارات لعذاب جرح لمّا يندمل بعد، وقد رهن الشاعر النفس لميتات عديدة، عله يحظى ذات يوم بما يأمل، لكن لا شيء جديد! فتبقى الغُصة في الحلق، والدمعة في العين، والنار في أعلى الجبل مؤرثة.
لم يستطع ماض أن يرفوه، ولا حاضر، إنه يتوالد وجعاً، يسيرُ معه الشاعر من نصٍّ إلى آخر، من دون أن ينطفئ، أو يخمد، إنه فينيق يتجدّد من الرّماد ليشّاعل حضوراً ماثلاً ومتفرّداً.
فهل رأيت جرحاً يستولدُ نفسه؟
إنه نصّ لقمان محمود، يشي بحالة كاتبه، يلخصُ رؤاه وأساه، وتجاربه، فمن خلاله ستتعرف إليه، وكأنك قد عاشرته زمناً، وخبرته أزماناً، فالنصّ هو الشاعر، كلاهما يسعى ويطمح ويحلم، وغالباً ما ينكسر.
" لم أرها /إلا باباً للحكاية/ نصفها شجرة مقدسة/ تحرس التفاحة الأولى/ من الحية/
ونصفها الآخر/سراب يعتني بالماء الخالد/ هكذا هي دائماً /طريق لا يؤدي/ على مكان/ ورغم الحكاية/ أتابع اللا وصول /فأنا /مفتاح/أرمل/ أرى العالم/ في ثقب الباب."
قصائد لقمان شُغلت بأسلوبٍ حداثوي مغاير، يذكرنا بأسلوب الشاعر الكرديّ "شيركو بيكوس" قد لا يكون شعراً موزوناً، وإن كنتُ أؤمن أنّ الكلام الموزون ليس بالضرورة أن يكون شعراً، وأنّ النثرَ وإن خلا من الوزن فقد يتخلق شعراً!.
هي كذلك قصيدته، تخلت من القيود الشكلية والأوزان، ليقدّم رؤية تتمثل حداثة شعرية توائم فتحاً جديداً، كذا العمل الإبداعي يكون متفرّداً ومختلفاً ومتنابعاً حين لا يخضع لنموذج مهيأ مسبقاً، فما يبدعه لقمان يتصفُ بالخصوصية، إذ إنه يبحثُ عن صوته الذي لا يشابه إلا نفسه، وبذا يمكننا أن نتلمس دلالاته العامة في البؤرة للدوال:
" لست مطراً/ يقول الماء الخائف/ ويبقى متمسكاً بالغيوم."
هي القطرة الأولى يُدهشك نزولها، تشعر بنفسك حيال قصائده أمام خلق يتشكل لأرض مازالت رائحة الله فيها. فيرميك بأسئلة مختفية تدعو إلى الانشداه، والوصول إلى رموز وإيحاءات مكثفة يستولد معنى تلوى معنى. فكيف بجرح الكرد وقد أكل من عشبة الخلود في (أوروك) واشرئب بقاءً لا يعرف الزوال، ولا يموت مادام ثمّة كرديٌّ على الأرض، يناضل من أجل استرجاع حقه المغتصب:
"صدقيني بقية ضلعي في كردستان/ صدقيني/
مهما ذهبت عميقاً في جرحي/ فدمي نائم في شقائق النعمان."
إنه شعرٌ لا يُشبه في حضوره إلا الجرح المفتوح على جهات أربع، شعرٌ له طعم مرٌّ، طعم التمزق والمنافي الباردة، والحلم القتيل.
" الحنين مرعب/ حين لا يزول / ومرعب حين يتراكم/ في أبد المنافي/إذن/ هو الحنين الذي لا بد منه/ كي يبقى الوطن/أجمل مما هو عليه."
إنه ولا شك نصّ لا يرتهن لواقع، ولا يعكس معطياته، وإنما يتجاوزها بالحلم، لأنّ الشعر فضاءٌ، وليس انعكاساً، وهو خلقٌ وبعثٌ وفتحٌ، وليس نقلاً حرفياً، إنه مغامرة الخوض في خضم نزف مشتعل، تؤازره مخيلة ورغبة في التحليق والكشف، تغوي لقطف بروق مستعرة، على الرّغم من أيّ حدثٍ مؤلم هو بالتأكيد عامل مهم في صنع هذا الخيال:
" مرة صرختُ في وجه الشتاء/ وحتى الآن / مازال البرد/ يرتجف في عظامي".
تدهشك القصيدة على قصرها، تؤرجحك لتسبح في فضاءات، وربّما ترى نفسك فجأة أمام لوحة فنية تدفعك للتأمل، أو مشهداً تمثيلياً متحرّكاً، هذا إنْ كنتَ قارئاً غير عاديٍّ، قارئاً جريئاً يغوص إلى العمق، للبحث عن معانٍ جوهرية، كاشفاً عن دلالات تلتقط مقاصد الشاعر الخفية، وربّما تتخطاها.
نستطيع القول: عن نصّ لقمان إنه "قابل للاختلاف والتأويل، فالإيحاء الذي يولده، هو ولا شك اللا تحديد في النسق المضمر، فالدلالات المتوالدة والمتعددة، تنقل النصّ من حالته النثرية التحديدية إلى حالته الشعرية اللاتحديدية .1[1]
لهذا فإننا أمام نصّ مشغول بحكمة واعظ خبر الحياة عن آخرها، فبات مترعاً بسكب ما لديه، يؤثرنا بخلاصة رؤاه:
" لكي تحيا واقفاً/ في هذا العالم/الكسيح/ينبغي أن تكون /من فصيلة الأشجار."
وثمّة نصّ قصير يبدو كقول مأثور، وإن تلوّن بلون المرارة، فلا شيء يُفرح قلب الشاعر حتى وإن رأى وردة تدعوه إلى مهرجان العبق!:
"يحظى الشوك/أيضاً / بروح جميلة/ لكن على ساق الوردة."
وعلى الرّغم من أنّ قصائد لقمان محمود، مكتنزة بوهج نارٍ يختزلها النوروز في أعراسه، هذا الإحساس الأرجواني اللاهب، إلا أنّ لون الجرح يبقى طاغياً، يحمل سرّه متقدّاً، إنه جرح بألف جرح، يسردُ الشاعر حكايته بلغته الشعرية المتألقة بجمالها وألمها ومساكب الحزن البنفسجية، والتشرد والضياع، المزهرة كلّ حين بما تحمله من إيحاءات، لغة مؤثرة للغاية، تدفع السكين في العمق ليزداد النزف ألقاً، تاركاً لون الجرح يغري الألم تمدّداً واستباحة.
إنّ عمق الألم المشتهى يستوجب من الشاعر سلوكاً لغوياً مغايراً، وبالتالي قارئاً يستطيع إبحاراً في خضمه.
جرح مفتوح على جهات أربع تماماً مثل نصّه المفتوح على الأرياح الأربعة.
وكيف لا، وهو الشاعر الكرديّ حيث أينما "يولد يحمل في قلبه أربعة جراح تيمناً بكردستان المجزأة."
وبعد:
 لا نستطيع أن نفصلَ الجرح عن النصّ، فكلاهما ينزف في الجهات المشرعة، فاختر أنت القبلة التي ستيمم الفوهة صوبها.
                                                          
 
 
                                                    ديوان وسيلة لفهم المنافي
                                                      للشاعر لقمان محمود
                                                     إصدار دار سردم-السليمانية-
                                                     كردستان العراق-عام 2014.