السياسة وادعاء النبوة!.. بقلم: د. إسماعيل مروة

السياسة وادعاء النبوة!.. بقلم: د. إسماعيل مروة

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٥ يناير ٢٠١٦

جلالة قدر النبوة، وسمو مكانتها في الفكر العربي والشرقي عموماً جعلت النقاد والمؤرخين لاهثين وراءها، متتبعين لكل ما يدور في فلكها، فهذا نبي، وذاك ليس نبياً، وهذا يتبع النبي، وذاك ابتعد عن النبي والرسالة!  وهكذا صار الحكم على الأشجار مرتبطاً بالنبوة والدين، ولا يخفى أن السلطة السياسية عملت على استغلال فكرة النبوة والتدين إلى النهاية، فكم من مبدع واجه السلطة السياسية، فوضعت أمامه السلطة الدينية لتحاكمه وترفضه، وربما تقتله؟! ابن المقفع زنديق! وبشار بن برد زنديق! وفلان ينتقص قدر الدين أو العربية فهو معارض ديني! ينزل بكل هؤلاء عقاب السلطة الدينية، وتلحقهم اللعنات من الناس من دون أن تتحمل السلطة السياسية وزر ما حدث! فهم في مواجهة الإله والنبوة والرسالات! ووصل الأمر إلى حكيم المعرة أبي العلاء المعري ورسالته المعنونة (رسالة الملائكة)، ولكن القارئ المدقق يصل إلى أحكام تنفي هذه الأقوال التي مرت، وفي شعر المعري من الإيمان ما يفوق شعر الفقهاء تديناً وصلاحاً وورعاً واحتياطاً للآخرة التي قال فيها أضعاف ما قال فيها الفقهاء إقناعاً وصلاحاً!
إن المبدعين والأدباء الذين واجهتهم السلطات السياسية بالسلطة الدينية وسيفها الذي لا يرد أكثر من الإحصاء، وحبذا لو تم إعداد معجم بهؤلاء وتهمهم، لنجد أن هذه التهم واهية لا أساس لها ولا سند!
ولعل أشهر هؤلاء، وهو الذي نجا من سيف السلطة الدينية أبو الطيب المتنبي أحمد بن الحسين، الذي علمتنا الكتب الدراسية، وهي الأخطر أنه ادعى النبوة في بادية السماوة، وعاش المتنبي بعد ذلك وطار صيته وذاع، ولم يعاقب على ادعاء النبوة حسب قولهم! ولم تذكر الكتب تتمة الحكاية! ولكن ما لفتني هو ما لفقه المؤرخون وكاتبو سيرته، ففي الكتب تؤثر عبارة عن المتنبي تقول: "له ثلاث خلال حميدة وله ثلاث خلال رديئة، فأما الحميدة فإنه ما كذب وما زنا وما لاط، وأما الرديئة، فإنه ما صلى وما صام وما قرأ القرآن! وأزعم يقيناً أن صياغة هذه العبارة ترتبط ارتباطاً وثيقاً لفكرة ادعاء النبوة، ولكن المتنبي الذي كان مقرباً من سيد عصره سيف الدولة لم يقع عليه حساب المؤسسة الدينية، وبقيت السهام تتناوبه نقداً وتجريحاً وانتقاصاً وتأليفاً وتخرّصاً! فهل كان المتنبي كذلك؟ وإن لم يكن كذلك فكيف سمحنا لهذه السيرة أن يتم تناقلها من عصر إلى آخر لتصل إلى زماننا؟! وستبقى ما دامت الكتب!
فهل ادعى المتنبي النبوة حقاً؟! وهل من جمال لتاريخنا وأدبنا وشعرنا من دون وجود اسم المتنبي؟!
إن رجلاً بذكاء المتنبي وطموحه وشاعريته يستحيل أن يدّعي النبوة، وهو يدرك إدراكاً تاماً ما ينتظره من هذا الادعاء لو فعله، وكذلك فإن أبا الطيب، طيب الله روحه، عاش عمره باحثاً عن مكانة وموقع، ولم يحظ بشيء من الإمارة، فهل يمكن أن يطلب أمراً يصل حد النبوة؟!
أما الصلاة والصيام وقراءة القرآن، فهذا أمر محال، لأن عظمة شعر المتنبي وفصاحة هذا الشعر تنفي نفياً قاطعاً القطيعة التي يدعونها بينه وبين القرآن، وهذا الشعر لا يصدر إلا مع شاعر حفظ القرآن، ومرس أساليبه، وإن كان من روح في قولهم، فإنه يقف عند حدود قراءة القرآن التعبدية، إن وافقنا معهم بأنه ما صلى وما صام!!
والصلاة والصيام عبادتان خاصتان بين العبد والرب، وكلاهما يحتاج إلى خلوة ونجوى، فهل رافق هؤلاء أبا الطيب في كل لحظة، وعدوا عليه حركاته وسكناته؟!
إن جزءاً من طموح المتنبي ومكانته وشاعريته كان وراء هذه الخلال غير الحميدة، لدفع التعاطف مع الشاعر وطموحه، وإن كانت السلطة السياسية لم تصل معه حد القتل والاتهام والزندقة كما فعلت مع غيره، فإن السلطة السياسية عملت جهدها لغمر المتنبي بأوصاف لا تليق في العرف الاجتماعي..! ولأن المتنبي لم يحظَ بشيء بقيت مغامرته شاهدة، وبقي طموحه وثاباً.. تجاوز حدود السلطات من أي نوع، وذهب الجميع، وبقي المتنبي في برجه الذي لا يصل إليه أحد هازئاً من ادعاءاتهم وولاءاتهم، وبقي إلى رحيله باحثاً عن الفتى العربي الذي يراه غريب الوجه واليد واللسان!