ما صدى كلماتنا؟!.. بقلم: ندى الجندي

ما صدى كلماتنا؟!.. بقلم: ندى الجندي

تحليل وآراء

الاثنين، ١١ يناير ٢٠١٦

ما أصعب أن تبوح بعاطفتها.. أي عشق هذا الذي أصابها.. ما إن وقعت عيناها على هذا الجمال حتى استحوذ قلبها، وامتلأ فؤادها عشقاً وشغفاً للقائه. إنها تريد أن تصرخ وتقول له عما يختلج قلبها من أحاسيس، ولكنها لا تستطيع أن تنطق ببنت شفة..!
لا تستطيع أن تنطق وتعبر عن أحاسيسها، لا تستطيع أن تقول بما تفكر، إنما فقط تردد ما يفكر فيه الآخرون، تردد ما تسمع وليس كل ما تسمعه فقط الكلمة الأخيرة تكون لها، إنها تردد ما يقوله الآخرون من دون القدرة على القول بما تريده هي، فما الذي أصابها وأفقدها القدرة على التواصل وهي التي كانت لا تتوقف عن الثرثرة وسرد القصص والأحاديث المطولة؟
ومن هذا الرجل الذي حل في حياتها وأشعل نيران الحب في قلبها؟؟
إنها حورية الجبال إيكو Echo، تنتمي لجبل هيلكون، حورية جميلة ولكنها ثرثارة وسليطة اللسان، قد لعبت دوراً في حياة هيرا Heira حيث كانت تسهب بالحديث معها وتشد انتباهها عن مراقبة زوجها زيوس Zeus عندما كان يخونها مع الجميلات بخبث ودهاء.
وعند اكتشاف هيرا خديعة إيكو Echo لها، جن جنونها، وصبت جام غضبها على إيكو قائلة لها: "تريدين أن تكون الكلمة الأخيرة لك، فليكن ذلك، ولكن ستحرمين من الكلام" وأنزلت بها أشد العقاب وهو أنها سلبتها قدرة التعبير وحكمت عليها بأن تردد الكلمة الأخيرة التي تسمعها من الآخرين من دون أن تتمكن من قول كلمتها!
وأي عقاب أصعب من ألا يستطيع الإنسان أن يبوح بما يفكر فيه؟
وتمضي الأيام وإيكو عاجزة عن الحديث وشاءت الأقدار أن تجمعها بشاب ذات يوم أثناء تجوالها في الغابة بين الأغصان، وقعت عيناها على شاب يدعى نرجس، Narciss ولم تصدق عيناها ما رأت، فهو آية في الجمال وكل الحوريات يحلمن بالتقرب إليه والحصول على قبلة منه ولكنه كان للحب ناكراً.. لا مبالياً، وقعت إيكو في غرام نرجس، وسعت للتواصل معه ولكن كيف وهي عاجزة عن النطق بما تشعر به!
أخذت إيكو، تلاحقه من مكان لآخر علها تجد الوسيلة المناسبة للتعبير عن هذا الحب والتعريف بنفسها، وأحس نرجس بأن أحداً يلاحقه فصرخ صوتاً وسط صمت الغابة المخيف قائلاً: "هل من أحد هنا؟" فكررت إيكو الكلمة الأخيرة "هنا.. هنا..".
صرخ نرجس من جديد "تعالي من هذه الناحية" فكررت إيكو "الناحية"..
حوار طال وكأنه حوار مع الذات استمر فيه نرجس ينادي ويتكرر صدى كلماته حتى نطق أخيراً وقال "انضمي إليَّ" فخرجت إيكو من مخبئها فرحة لتطوق حبيبها متوهمة أنه سيقع في حبها عندما يراها، كما وقعت هي في حب جماله، وكانت المفاجأة الكبرى نرجس صدها بعنف وقسوة ودفعها بخشونة وطلب منها الابتعاد عنه.
حزنت إيكو أشد الحزن لما أصابها فأصعب العذاب هو أن تحب إنساناً لا يحبك.
واختبأت في الكهوف وتوجهت إلى الإله Nemesis ودعت أن يصيب نرجس ما أصابها أن يحب بشكل جنوني من لا يحبه ويتعذب ببؤسه وبالتالي يشعر بمدى الألم الذي سببه لها.
وبدأت إيكو بالاختفاء تدريجياً ولم يبق منها إلا أذنها.
إيكو في كل مكان وحتى وهي ميتة تردد الأصوات التي سمعها، أما دعاؤها بأن يتلوع نرجس بآلام الحب، فقد تحققت ووقع في غرام ذاته عندما رأى انعكاس صورته في مياه البحيرة ويكون مصيره الموت المحتوم وهو يحاول جاهداً التقاط صورته، ويغرق في المياه وتنبت وردة جميلة تحمل اسمه.
قدر حزين كان ينتظر إيكو ونرجس، نرجس يتجمد عند صورته، إيكو تتجمد عند صوتها.
وفي الحالتين انقطاع عن العالم الخارجي.
نرجس لم يكن يشعر بالآخرين من حوله لم يكن يرى إلا نفسه.
معشوق الحوريات ولكنه كان لا مبالياً لا يعشق إلا ذاته، قد أدار ظهره للحب الوفي فكان مصيره الموت.
أما إيكو فلم تكن تصغي لأحد، بل كانت تتكلم من دون أن تدرك ما تقول، ثرثرة غوغاء تقتل معها الوقت والفكر، لم تكن تتساءل يوماً أي أثر سلبي تركته ثرثرتها هذه في آذان من يسمعها ولكن هل كانت تصغي لأحد!
أسطورة إيكو ونرسيس ماذا تدعو في خفاياها وأي رمز تحمله إلينا.
وعندما يردد الإنسان صدى صوته ماذا يعني إنها كلماته، وعندما يرى صورته في المياه إنها الصورة التي يحملها عن نفسه.
أليست هي دعوة للعودة للذات عودة حقيقية ورؤية هذا الطفل في داخلنا، رؤية فاحصة نحاول من خلالها إعادة تجميع الصورة الجميلة التي ربما شوهتها الأيام بالجروح بما مر عليها من معاملة قاسية في الطفولة لنحاول أن نسمع أصداء صوتنا الداخلي، ماذا يريد أن يُخبرنا.
إنها دعوة لمعرفة النفس معرفة حقيقية بهدف إعادة تجميع صورة جميلة عن ذاتنا قد تكون تبعثرت في مرحلة مظلمة من حياتنا.. ومن منا لم يمر بمرحلة يشعر بها بالضياع والتشتت.
يشعر بها بأنه فقد ذاته، إنها دعوة للتحول إلى زهرة نرجس جميلة، وكأن التحول لا يكون إلا بالتضحية بالذات أي بمحو ذاكرة الانتقام من أجل النجاح من أجل الآخر، حيث منها تتشكل الدعوة للحياة التي لا تكون إلا بمعرفتها، وامتلاك أسس ونواصي وجودها.
ماذا نريد حتى نستطيع التعبير بحرية.. نريد الحرية لا الموت.