عن إيران المقبلة بقوة.. بقلم: عبد الله زغيب

عن إيران المقبلة بقوة.. بقلم: عبد الله زغيب

تحليل وآراء

الجمعة، ٤ ديسمبر ٢٠١٥

لا تحتاج إيران لعملية وزن معقدة كي نخرج ببيانات تُثبت ثقلها الاستراتيجي في الإقليم، وكذلك دورها الحيوي في صناعة أو تشكيل أجزاء أساسية منه. فإيران المُعاقبة كما إيران المقتربة من التحرّر الاقتصادي، كانت لاعباً أساسياً، وعنصراً كامل الانخراط في قولبة بعض أهم جوانب الصورة للمنطقتين العربية والإسلامية. وهي تقف اليوم في منطقة عازلة بين ما كان من اندفاع برغم ضيق الحال، وما يمكن أن يكون من يُسرٍ مالي، وبطبيعة الحال «يُسر سياسي»، وبالتالي ضغط اضافي على صناع القرار فيها، للالتزام بدور «اللاعب العاقل»، لإنجاح البازار المفتوح أمام رأس المال بطبيعتيه «الأليفة» و «المتوحشة» القادم من الغرب والشرق على السواء، فالجمهورية الإسلامية انتظرت منذ قيامها لحظة التقاط الأنفاس هذه، والتي قد تطول وتنسحب على سلة السياسات الإيرانية بشكل مغاير للتوقعات القائمة اليوم، علماً أنها قد تُسهم في تعزيز قناعة الأصوليين في جهاز الحكم الايراني، بأن خيارات المواجهة كانت الأجدى، وهي التي أوصلت البلاد إلى حافة الإنجاز، وبالتالي فإن عليها الاستمرار بدور كبيرِ المشاكسين في وجه منظومة المصالح الأميركية ـ العربية المشتركة، مع ما يتشابك فيها من أذرع إسرائيلية وتركية.
تعتبر طهران، وكذلك المنخرطون في ملفها النووي، أن شهر كانون الأول الجاري، يُعَدّ حاسماً في صناعة الهوية المقبلة لحزمة الخيارات الإيرانية السياسية والاقتصادية، بمعزل عن محاولة القيادة الإيرانية إظهار مستوى مقبول من الثبات، وتأكيدها على ما تسميه «الخيارات الاستراتيجية» التي ترتبط بما هو أعمق من مصالح البلاد الاقتصادية، وحاجتها للانخراط مجدداً في السّوقين الإقليمية والدولية من دون قيود أو وسطاء. وبالتالي فإن الأنظار تتوجه نحو عدد من القضايا التقنية، التي كانت جزءاً أساسياً من الاتفاق النووي الذي أعلن عن التوصل اليه في العاصمة النمساوية فيينا في 14 تموز الماضي.
المادة الـ14 لبرنامج العمل المشترك الشامل الذي اتفقت عليه طهران مع «السداسية الدولية» ينصّ على وجوب إغلاق ملف ايران لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية والمسمّى اختصاراً BMD (أو الابعاد العسكرية المحتملة للانشطة النووية الايرانية)، وهذا لن يحصل الا بعد تنظیم مسودة قرار لإغلاق الملف بشكل نهائي، وهي المرحلة التي تستتبع تأكد الخبراء الفنيين التابعين للوكالة من التزام إيران بتعهّداتها النووية، التي تنقسم الى قسمين. الأول فوري، أي خلال شهور عدة، والثاني يمتدّ الى فترة تصل الى خمسة عشر عاماً. وخلال المرحلة الاولى، يتطلب التزام طهران بالتعهدات، الانتقال مباشرة الى تنفيذ برنامج العمل المشترك، وبالتالي رفع جزء ضخم من العقوبات عن طهران، التي ذكّرت شركاءها في الاتفاق النووي أن التزامها بتعهداتها من دون إغلاق ملفّها في الوكالة الدولية للطاقة الذرية لا معنی له. وهذا يعني أن الإيرانيين يشعرون بريبة تجاه المقبل من خيارات المنظمة، التي قد يكون أحدها ترك موضوع الملف معلقاً، مع تخفيف العقوبات تدريجياً، ريثما يتأكد الغرب من الالتزامات المتعلقة بالمدى الطويل، والتي يمكن اختصارها بالعناوين التالية:
ـ امتناع طهران عن تخصيب اليورانيوم بنسبة أكثر من 3,67 في المئة خلال 15 عاماً داخل منشأة موقع «نطنز» فقط.
ـ تحديد مخزونات إيران من اليورانيوم المخصب في الـ15 عاماً المقبلة، بـ300 كيلوغرام فقط.
ـ تحويل مفاعل «أراك» إلى منشأة للبحث العلمي، على أن تعلن المصادقة على عملية التحويل هذه بإجماع الأطراف كافة مستقبلاً، وتشكيل لجنة مشتركة حول الأمر.
ـ التزام إيران بعدم بناء أي مفاعلات تعمل بالماء الثقيل وعدم تخزين الماء الثقيل، وبيع الفائض في الأسواق الدولية خلال الـ15 سنة المقبلة أيضاً.
لا يمكن الجزم بطبيعة النتيجة التي قد تصل اليها الوكالة الدولية خلال المقبل من الاسابيع، لكن المنطق السياسي الذي يتحكم بمسار الامور مهما بلغت تفاصيلها التقنية، يظهر ثباتاً في السياق منذ الإعلان عن الاتفاق النووي. وبالتالي فإن النتيجة المنطقية هي إعلان واضح مع بعض «الالتباسات الظرفية» المقصودة، بأن إيران التزمت في المرحلة الماضية بالتزاماتها. وعليه، فإن الشروع بتنفيذ الملاحق العملية للاتفاق مع «مجموعة الخمسة زائداً واحداً» بات أمراً حتمياً. وهكذا، فإن منتصف الشهر الجاري بات موعداً حاسماً آخر في السردية النووية لإيران ونظراء طاولة التفاوض. ومن ذلك التاريخ قد تبدأ عملية التبدل الكامل في هيكلية الدولية الإيرانية، ببعدَيْها المالي والاقتصادي، على أن يرافق هذا التبدل انفتاح غير مسبوق على فكرة الشراكة مع الأوروبيين تحديداً، ما يفتح الباب أمام انعكاسات بالبعد السياسي، قد تُستثمَر من الطرفين وبأدوات مختلفة، وقد تكون شديدة التناقض أيضاً.
لا يمكن قراءة مرحلة ما بعد الاتفاق النووي، او ما بعد الشروع بتنفيذه وظهور مفاعليه، بمعزل عن المرحلة السابقة له، فالواضح في الايام الاخيرة للتفاوض الماراتوني في العاصمة النمساوية فيينا أن طبيعة المتحاورين فرضت حتمية سياسية على طبيعة التفاوض. وكلنا يذكر كيف كان الأسبوع الأخير أسبوع السياسيين، وبشكل منفصل عن الخبراء المرافقين للوفود. وكلام وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونظيره الاميركي جون كيري وقتها، عن النقاشات «ذات الطبيعة السياسية»، كان مؤشراً على أن الصفحة الجديدة التي فتحت، امتلأت بالتفاهمات او مُقدّمات التفاهم، قبل أن تُكتب مسودّة تفعيل الاتفاق بعد تصديقه من خبراء وكالة الطاقة بعد اسابيع من الآن. والمقصود هنا، أن مرحلة الخروج من تحت قبة العقوبات، سيُدخل ايران في مرحلة إنتاج التفاهمات او البدء بتظهيرها.
إصرار المرشد الايراني السيد علي الخامنئي على الحديث مراراً بأن بلاده لن تتفاوض على أي قضية بشكل مباشر مع أميركا باستثناء ما جرى في التفاوض النووي، لا يفرض بالضرورة استمرار التباعد بين الطرفين او حتى الحرب الباردة والحروب المشتعلة باستخدام طرف ثالث، حيث يقدم النموذج العراقي منذ احتلال البلاد العام 2003 حتى الآن، دليلاً على امكانية الخروج بمسارٍ متشابك في التعاطي مع أزمات او ملفات اقليمية من دون الحاجة للجلوس على مائدة واحدة بشكل مباشر. وهكذا ابتكر الإيرانيون طريقة جديدة في ادارة العلاقة المرتبكة مع الأميركيين، تماثل طريقة إدارة الحرب معهم، فكان للطرف الثالث، وفي هذه الحالة، المكونات العراقية المقربة من الاميركيين والايرانيين، دورٌ اساسي في الوصل السياسي واللوجستي أيضاً، في مرحلتي إدارة الحياة السياسية العراقية بكل تناقضاتها، ثم ادارة المعركة في مواجهة تمدّد تنظيم «الدولة» واقترابه من العاصمة بغداد.
تستعد إيران اليوم لتعزيز السياسة هذه، لأن تقوية العلاقة مع الاميركي بالمعنى العملي من تواصل وقنوات ارتباط وتنسيق، لا يمكن أن تكون أمراً ثانوياً، نظراً لانخراط الطرفين في ساحات الحرب كافة، وكذلك مناطق التوتر الأمني والسياسي في منطقة الشرق الأوسط. وبالتالي فإن هوية أو صورة إيران ما بعد الحظر، لا يمكن إلا ان تكون على درجة واضحة من الاختلاف عمّا سبق، حيث إن قدرة إيران على تمويل «مجهودها الخارجي» ستزداد، مقارنة بحالة التقشف الشديدة التي تعيشها حالياً، والتي طالت فصائل وأحزاباً، بل حتى قنوات إعلامية كانت تعتمد على المحفظة الإيرانية في تمويل نشاطاتها. لكن في المقابل، قد تضطر ايران لرفد صورة الدولة العاقلة بجرعات اضافية من «التعقّل» بالمنظور الغربي، وبالتالي نفض بعض من «غبار» العلاقات القديمة، أو «الانخراطات» العتيقة التي تسبّبت بـ «ضغينة» مزمنة مع الغربيين. لكن ذلك لا يعني بالضرورة تخلّي طهران عما «صدّرته» دوماً باعتباره «ثوابت» للثورة الإسلامية. وهذه معضلة يتوجّب على الأميركي فك رموزها. إذ إن التصلب في وجه ما تعتبره القيادة الإيرانية العليا مكوناً ثورياً أساسياً كقضية فلسطين ودعم المقاومة في لبنان، لا يمكن إلا أن يُفضي الى تصلب إيراني مقابل، في ملفات أقل عقائدية كالملفات السورية واليمنية والعراقية، وهي لعبة اعتادتها طهران منذ انتصار ثورتها العام تسعة وسبعين من القرن الماضي.