حامد حسن شاعراً وباحثاً.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

حامد حسن شاعراً وباحثاً.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢ ديسمبر ٢٠١٥

ينطبق اصطلاح "المثقف الموسوعي" على ما كان عليه الشاعر والباحث المرحوم حامد حسن، فقد كتب القصيدة بأركانها التراثية كافة، وكتب المسرحية الشعرية مثلما كتب "الأوبريت" الغنائية الشعبية والبحث التحليلي والتوثيقي منطلقاً من علوم المنطق والفلسفة والتصوف، وكان يرحمه الله على معرفة باللغة العربية وفقهها كما كان على وعي بالأديان والعقائد ولاسيما المسار الإسلامي منها، وتاريخية نشوء وارتقاء وأبعاد مدارسه وشخصيات مؤسسيها، وقد توشحت لغته الشعرية بحيز من الألفاظ القرآنية إلا إذا ما كان النص الشعري الذي يبدعه يرجع بحدثه إلى ما قبل الإسلام كما في "امرؤ القيس والعذارى" فإن تلك اللغة ستلتزم – رغم معاصرتها- زمن الحدث وسيختار له قافية مجلجلة يستلها من واحد من أحرف القلقلة، إمعاناً في التصوير والتهويل والإثارة، وإني لأحسب رائعته الشعرية هذه تساوقت في ديوان الشعر العربي السوري المعاصر مع ديوان الشعر العربي القديم كما أني لأحسب أن عدداً غير قليل من شبان وشابات زمن ميلاد القصيدة قد نقلوها في دفاترهم مثلما أن أكثرهم استظهرها لجدتها في العصرنة مع أنها ولدت في مناخ كان فيه الشعر العربي بعامة والسوري منه بخاصة ينمو ويسمو على أيدي عمر أبي ريشة وبدوي الجبل ويطرق باب الحداثة بيدي نزار قباني إضافة إلى وجود شفيق جبري الذي كان ينعت بشاعر الشام.
 في السابق من عمره حفظ حامد حسن القرآن الكريم وقد كان ذلك في بيئة ظل مشدوداً إليها رغم إقامته بالعاصمة في زمن كان الفتى الريفي يحلم في زيارتها ولو لساعة من النهار.
 تلك البيئة -عند شاعرنا- كانت المثال الصحيح لحرية الفرد وفقاً لتعبيره بيت في عزلة ريفية، تحيط به الطبيعة الصحيحة، تميزاً لها عن الطبيعة التي زيفها الإنسان –بكل ألوانها وجمالاتها وبراءتها وطهرها.
 شمس ضاحية في الصيف، طراوة نسمات في الخريف، زوابع ثائرة في الشتاء، دفء عاطر فاغم في الربيع، هدوء يسربلك حتى لتسمع رجيع الدم في شرايينك ونبض فؤادك، وزهزهة أنوار حتى لتخال نفسك استحالت إلى شعاع وأحيانا تلفك الزوبعة الهادرة الراعدة حتى لتشعر أنك حملت على أكف عفاريت العذاب والغضب التي تبسط أكفها على أضلاع مسكونة.
 على هذا النحو كان مناخ طفولة شاعرنا ومكانها، فالبيت الذي شهد فيه الحياة كان يرتمي هكذا في حيز من جبال طرطوس.. وضمن ذلك المناخ وهذا البيت أمضى الشاعر الجزء الأكبر والأحب من شبابه قبل أن تنتزعه الوظيفة منه إلى العاصمة، وما أن التحق بوظيفته في المدينة حتى بدأ ينكفئ نحو الداخل رغم ما كانت تشعه دمشق الخمسينيات من ألق في النفوس التي اهتدت آنئذ إلى صوتها الحر الذي استطاع أن يقول للأحلاف "لا" فابتعدت وللوحدة العربية "نعم" فتحققت.
 بيد أن هذا الانكفاء نحو الداخل كان سمة المبدعين الريفيين الذين جاؤوا المدينة وقتها ليس في سورية وحدها بل في معظم أقطار الوطن العربي، ثم إن بعضهم نعت المدينة بأنها بلا قلب كما فعل الشاعر العربي المصري أحمد عبد المعطي الحجازي الذي أصدر ديواناً جعله يحمل عنوان: "مدينة بلا قلب" وهو الفلاح المصري الذي اقتلع من قريته الوادعة ليلقى به في أتون المدينة بغية الدراسة فالوظيفة.
 على مدى شعر حامد حسن كله تقريباً لم يرد ما يشير إلى هذه الظاهرة نعني ظاهرة الغضب من المدينة أو العتب، لكنا وجدنا تذمراً من الوظيفة التي أحكمت طوقها فكبلت ذلك الريفي لتأسره فيها وهو الذي كان طليقاً تماماً كطبيعة بيئته من كل قيد.
 بيد أن هذه الوظيفة التي يسميها "سدوم" في بعض شعره ستظل حاجة قصوى لحامد حسن وسيظل عالقاً بها مصداقاً لقوله:
 علقت بها مخافة أن تراني وبي عوز على باب اللئيم
رغم أن الوظيفة أو "سدوم" تلك لم تغنه من أن يرى زوجته وأم أبنائه على هذا النحو:
وحولها الأسى شبحاً فصارت مع الخطرات تعثر بالنسيم
وأن يخاطبها عبر جوانياته بقوله دونما نطق:
سيتعبك انتظارك أي نعمى أفيض على رضيعك والفطيم
وليس من شك في أن هذه الشكوى المريرة من الوظيفة قريبة الشبه بشكاة ابن الساعاتي قبل قرون من قضية لم يجد منها أيما جدوى كان قد وصفها لنا بقوله:
عفت القريض فلن أسعى له أبداً حتى لقد عفت أن أرويه بالكتب
إلا أن ابن الساعاتي لم يهجر القريض استهانة به وإنما كان ذلك بسبب الخشية من حرفة الأدب.
شاعرنا حامد حسن ضاق بالوظيفة إلا أنه ظل مرتبطاً بها للحاجة كما ألمحنا وهذا الارتباط فجر لديه إبداعه الشعري مثلما حرضه على عطائه البحثي وهذا ما سنحاول الوقوف عنده في مقالة لاحقة.
    (يتبع..)