مصداقية الدين عند حسن الظن بالآخرين.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

مصداقية الدين عند حسن الظن بالآخرين.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٠ نوفمبر ٢٠١٥

إذا صح حسن الظن بالآخرين صدق حسن العمل معهم، وهوية حسن الظن هي معيار قبول الإيمان والإسلام، وهي معيار احترام المشيئة الربانية في أدب الاعتراف بكرامة الإنسان ورعايتها من دون البحث عن دينه أو ملته أو مذهبه أو عشيرته أو أي من انتماءاته؛ فهو أولاً موقع لسر الإرادة الإلهية في خلقه وفي حياته وفي اصطفافه مع الناس جميعاً ذكراً وأنثى شعوباً وقبائل ودولاً وأفراداً وتجمعات فإن (أكرمكم عند الله أتقاكم)، وإن حسن الظن المعهود به لعامة الناس هو مفتاح صحة التقوى هذه، وهو الإذن بقبولها..، فالتعاون الإنساني قبل التبتل وخشوعيات العبادات؛ بل إن التبتل والطاعات والخشوعيات هي جميعاً مادة قوة وتعزيز للتعاون الإنساني العالمي، وهي ضمانة للقوة الحضارية ولا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ فإن انفصلا فإنه كمن أنبت الحبة والجذع وقطع الأغصان والثمرة، وأخطر جراثيم سوء الظن إنما هي زلات اللسان، ولأجل هذا الشأن الذي جعله الدين الحق ملاك الحياة والعلاقات، فقد جعل القرآن الكريم محور المسؤولية عن الكلمة أن يطارد زلات اللسان بتحريم الكلمة التي لا تصدر عن عقل وتفكير- وخصوصاً من يستعجلون في الحديث والإجابات وفي ردود الأفعال-، وما أشبه السباب وعثرات اللسان بمقصات شتائمه بتهويمات العاجز في قعوده الكسيح يعجز عن منطق الحوار ولغته، فيلجأ إلى أباطيل الكلام واهماً أن بطش اللسان قد يستر عليه رأيه الضعيف، ولذلك فإن أدب القرآن أن يحفّز همة العقل إلى طلب الحق بطلب المعرفة والحقيقة..، ويرى بعض علماء الحكمة في هذا الأدب معنى جميلاً في أن يتخلق الإنسان بأخلاق الله عز وجل، فإذا كان الحق بمعناه المطلق غير المحدود هو من صفات الله تعالى، فإن الحق في صوره الجزئية المحدودة هو ما يجب على الإنسان أن يسعى نحو الاضطلاع بثقافته ثم إدراكه والعمل بمقتضاه، ولن ينفع إدراكه ومعرفته شيئاً إن لم يتحقق صدق العمل به!..، فهو بذلك روح الهوية لتحقيق هندسة السلام العالمي، وهل يرتقي سلام العالم، إذا لم يكن الحق هو الإيمان العميق على قاعدة مطمئنة بذلك لتنهض عليها وحدة الكرامة الإنسانية، ولتزدهر على الأرض بثقافة حق الأمان لكل إنسان بمعزل عن دينه وقوميته؛ فالأصل في رباط الإنسانية أن يقوم على مبدأ التراحم والتواصل، ولا تعارض بينه وبين مبدأ الشدة على الأعداء؛ لأن مشروعية الشدة والغلظة على العدو محكومة لشرط صدورها عن عقل ينأى بها عن الإفراط والتفريط، لكيلا يقع المؤمن في إثم البغي، ومن هنا كان مفهوم العدل بحسب القرآن متعالياً على عصبيات الدين والأعراق كما جاء في القرآن: (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى) المائدة 2، وإن ما ينبغي لفت نقاد الفكر الديني له إلى أن ما نجده في القرآن الكريم من حديث الشدة والغلظة إنما هو في أعلى درجاته حديث متصل في حالة ظهور الحِرابة والقتال من الآخر وليس لأجل فرض الدين أو الإيمان، فإذا ما انكشف السلام من ورائها ووضعت الحرب أوزارها فنحن مأمورون بالتواصل في جميع شؤون الحياة وفي جميع شؤون الرسالة التي تخاطب العقل بالعقل، واللغة باللغة، والجدال بالجدال بالتي هي أحسن، وعلى هذا النهج يغلق القرآن أبواب التطرف والمغالاة في الأمور كلها، فينهي مفاعيل العنف والحدة والغضب، ويأمر بكظم الغيظ وبالعفو عن الناس والإحسان إليهم، لأن الغضب يفسد الإيمان، ولأن الحدة ضرب من الجنون، لأن صاحبها يندم فإن لم يندم فجنونه مستحكم، وعندها لا يجد نفساً تردعه عن الإيذاء وصناعة الفساد وعن قذف المحصن والمحصنات، وأن يرى الناس ولو كانوا صالحين وأنبياء بمنظاره البشري المحكوم بالخسران وبأسفل سافلين إن لم ينهض نحو الإيمان وعمل الصالحات بتربية التزكية في نفسه ليملك بذلك عقله، وليكون متحكماً من خلاله بالواقعة والمشكلة السيئة، لا أن تكون مسيطرة على حريته وكرامته.