صراع "النموذج السوري"..بقلم: مازن بلال

صراع "النموذج السوري"..بقلم: مازن بلال

تحليل وآراء

الأربعاء، ٤ نوفمبر ٢٠١٥

   ضمن أي حل سياسي اليوم فإن مفارقة ستظهر على المستوى السوري، وربما أعمق بكثير من مسألة التفاوض أو ما يُطلق عليه "المرحلة الانتقالية"، فعلى امتداد أربع سنوات لم تكن الحرب على قضايا "السلطة السياسية" بل قدمت التناقض الصارخ في مواجهة "النموذج السوري"، فكانت داعش أو النصرة أو غيرهما من التشكيلات المتشددة؛ تمثل الجانب النقيض لطبيعة "التوافق السلس" داخل مجتمع يسعى ليكون "منفتحاً بامتياز"، في وقت مثلت فيه التيارات السياسية وتناقضاتها صورة مختلفة لنوعية السيادة التي تشكلت عليها الدولة السورية منذ الاستقلال، فكانت قادرة على التأقلم مع تقلبات الدول الإقليمية وبشكل يعاكس فكرة إنشاء هذه الدولة منذ "المؤتمر السوري" (1919).
   عمليا فإن التركيز الإعلامي انصب بشكل مباشر على التنظيمات الإرهابية مع فصلها عن العملية السياسية، رغم أن عمق الأزمة مرتبط بإيجاد "نموذج" بديل يحمل سمات قادرة على إنتاج واقع مختلف، وربما متناقض مع المسار التاريخي لسورية كجغرافية تفرض التلاقي الحضاري، فالحدث السوري يطرح على مستوى الحل السياسي نقطتين أساسيتين:
-    الأولى هو أن أي حل سياسي وفق سياق الصراع الدائر منذ أربع سنوات يفترض انقلاباً على مستوى الجغرافية السياسية، أي تجاوز معادلة التوازن التاريخي القائمة على الفهم الحضاري لمجمل المكون الثقافي السوري؛ فالتطرف الديني المصاحب للأزمة السورية لا يمكن فصله عن "الانقلاب" السياسي الحاصل، وذلك بغض النظر عن المطالب السياسية المعلنة.
   في النموذج السوري لم يكن العمق الديني قواعد فقهية مطلقة، إنما توافق واقعي لاستمرار "الدولة الحديثة"، ومع طبيعة التنوع الذي يحمله المجتمع السوري، وفي المقابل فإنه شَكل مساحة التلاقي ضمن مثلث حضاري ما بين هضبة الأناضول والهضبة الإيرانية وصحراء شبه الجزيرة العربية، فما يطلق عليه "التشارك" و "التفاعل" هو إسقاط لنوعية الجغرافية – السياسية التي تعي أن وجودها مرتبط بالقدرة على الحضور ضمن هذا المثلث الحضاري.
-    الثانية أن الأزمة السورية أوضحت صعوبة إيجاد سيناريوهات من دون الأخذ بعين الاعتبار قراءة "النموذج السوري" الذي تشكل منذ الاستقلال، علما أنه لا يختلف في سماته العامة عن جميع المراحل التاريخية لسورية عموماً، فإدخال التطرف الديني الذي عبرت عنه الكثير من التشكيلات الإرهابية المسلحة؛ كان عامل كسر سيادة يؤثر على التوازن الكلي الداخلي لسورية.
   وعندما نتحدث عن "نموذج سوري" فهو لا يعني نموذجاً للنظام السياسي، إنما بنية سياسية منسجمة مع الجغرافية السياسية التي تتطلب "سيادة مختلفة"، سياسية واقتصادية، منسجمة مع الجغرافية السورية التي تضغط عليها كتل تاريخية من الاتجاهات الأربع (إيران، تركيا...)، وهذا الأمر هو الذي عقد الحل السياسي وجعل "العامل الديني المتطرف" جزءاً من السيناريوهات، واتجه نحو دولة مرنة بتبعيات إقليمية متعددة، وفي الوقت الذي أصبح فيه إيجاد "رؤية" سياسية جديدة ضرورة من أجل إعادة التوازن لسورية والمنطقة، فإن التناقض الإقليمي استخدم اتجاهين مختلفين لتكريس النفوذ: استخدام التطرف الديني، وإسقاط الليبرالية على مفهوم السيادة، فظهرت مواقف سياسية من دون أن تتكرس بنية سياسية منسجمة مع الجغرافية – السياسية السورية، وبرزت أيضاً "حركات جهادية" متناقضة مع التنوع الاجتماعي لسورية.
   يصعب في سورية البحث عن توافق وحوار من دون فهم التشابك بين مسيرة التاريخ وجغرافية شرق المتوسط، ومن المستحيل أن نتصور الحل السياسي مع وجود عامل قسري من "فقه التكفير"، وهذا الأمر لا ينفصل عن رؤية السيناريو العام لسورية لأن "فقه التفكير" يفترض ليبرالية "مفصلة" على سياق يفتح النفوذ الإقليمي، ويقدم تفسيرات "تراثية" للمشهد السياسي، ويزيح في النهاية "ثقافة المنطقة" عموماً نحو تناقض، تنبه له بعض علماء الدين (مثل الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي)، فالطابع الديني لسورية، لا يمكنه الانزياح نحو التطرف، لأنه يكسر المعادلة الحضارية من جهة، وفي الوقت نفسه يطرح استنزافاً على المستوى السياسي، لأنه يخلق دولة توافق للنفوذ الإقليمي.
   التصور السياسي في لجان "دي ميستورا" الأربع ليس بعيداً عن الانقلاب على "الجغرافية السورية"، فاللجان التقنية التي اقترحها تقر مسبقاً بأن "التطرف" هو جزء من البنية السورية، وإسقاط الليبرالية على السيادة هو أمر واقع، بينما سيشكل إزاحة الإرهاب عاملاً استراتيجياً يحرر العملية السياسية، سواء عبر لجان دي ميستورا أو جنيف3، من افتراض نهاية النموذج السوري الموجود داخل جغرافية قادرة على تفاعل الحضاري وليس على تناقض النفوذ الإقليمي.