أردوغان باقِ.. فهل يتمدد؟..بقلم: خليل حرب

أردوغان باقِ.. فهل يتمدد؟..بقلم: خليل حرب

تحليل وآراء

الجمعة، ٣٠ أكتوبر ٢٠١٥

ما من سيناريو مطروح في تركيا الآن يتنبأ برحيل رجب طيب أردوغان. الرجل باق. جلّ ما يفعله الآن محاولة التموضع في مساحة أكثر رحابة له سياسياً، لكنه يتعثر غالباً. يثور ويغضب ثم يفتش عن أوراق جديدة ليراهن عليها.
لم يصبح أردوغان رجل أوروبا المريض أقله في المدى المنظور. لكن العديد من المراقبين، وخصومه طبعاً، يعتبرون أنه وصل إلى ذروة ما لديه، وهو الآن في مرحلة التراجع، أو الانكسار، على الصعيد الشعبي، وعلى مستوى حزبه «العدالة والتنمية»، وعلى مستوى النفوذ الخارجي. وما من ملف أكثر من الأزمة السورية استهلك من رصيده كما فعلت النيران السورية.
لكن الرجل باقٍ الآن، حتى لو اتخذت الانتخابات الجديدة التي دعا إليها يوم الأحد المقبل، طابعاً شرق أوسطياً. بؤر الاشتعال تحيط به من كل حدب وصوب. والأكثر خطورة تلك التي تزداد التهابا في الداخل التركي.
هناك الآن في تركيا، التي روّج لها كنموذج يحتذى للجمع بين الديموقراطية والإسلام والعصرنة، من يتخوف من حرب أهلية، ويتجادلون حول مواعيدها وكأنها آتية لا محالة! هم الأكثر تشاؤما، اما الأقل تشاؤما فيتحدثون عن نهاية حقبة «حزب العدالة والتنمية» التي عهدناها منذ أكثر من 12 سنة.
ولهذا فإن انتخابات الأحد «تاريخية» بكل ما للكلمة من معنى، سواء على مصير تركيا في المستقبل القريب، أو الحزب الحاكم، أو على المشهد الإقليمي.
ذهب التفاؤل والثقة اللذان كانا يميزان السياسيين أو الصحافيين المقربين من دوائر سلطة «العدالة والتنمية» في السنوات القليلة الماضية. الحديث عن انفراط الحزب الحاكم الفضفاض، بات رائجاً. سياسية بارزة في الحزب الحاكم تقول لـ «السفير» إن الانشقاقات باتت مرجحة، وإن صلابة الحزب على المحك في هذه الانتخابات، وربما ما هو أكثر من ذلك.
ستة وخمسون مليون ناخب مدعوون لخوض الانتخابات البرلمانية الأحد. كل ورقة تصويت لها حساباتها الكبرى. لعب أردوغان منذ انتخابات حزيران الماضي، بالورقة الأمنية. هكذا يتهمه خصومه وكأنه يقول لهم: «إما أنا أو الفوضى».
في حي السلطان أحمد في إسطنبول، ينتصب «الباب العالي» الذي كان رمزا للسلطنة العثمانية، وأمس للمفارقة كان ذكرى إعلان نهايتها. هو الآن مقر حاكمية إسطنبول. بهذا الارتفاع الشاهق، تبدو أمامه كتابع خاضع، وكأنك تتطلع إلى السماء. ضئيلا أنت أمام «الباب العالي»، وهو يعكس الهيبة التي عمل أردوغان وحزبه كثيرا على تعزيزها؛ فالذي يطمح إلى تحويل النظام البرلماني الجمهوري إلى نظام رئاسي، وأجهضت طموحاته في انتخابات السابع من حزيران الماضي، كان عليه ان يعمل من أجل هذا الهدف.
لكن الأخطاء كثيرة، كما الإخفاقات، والهيبة تتلاشى. قبل يومين، شاهد كل الأتراك كيف اقتحمت قوات الأمن محطتَي تلفزيون معارضتَين وأقفلتهما عشية فتح صناديق الاقتراع. وأمس أيضا تسرب إلى الإعلام تقرير التقييم السنوي الذي يعده الاتحاد الأوروبي حول أوضاع تركيا، وفيه ما فيه من علامات التدهور الداخلي، وما لا يبعث على التفاؤل بالمستقبل، في الاقتصاد والحريات العامة.
ولم يعد يمر يوم، إلا وتشهد البلاد حدثا أمنيا كبيرا. تارة باشتباك بين قوات الأمن ومسلحي «حزب العمال الكردستاني»، وتارة مع عناصر تنظيم «داعش» في أكثر من منطقة تركية، بما في ذلك إسطنبول ذاتها، عاصمة الاقتصاد والمال والسياحة ورمز التاريخ التركي.
فما هي الخيارات أمام أردوغان الآن؟ رئيس تحرير موقع «روتا خبر» الإلكتروني أونال طانق، المعروف بدقة إطلاعه على المشهد السياسي التركي، يقول لـ «السفير» إن العامل الأساس الذي سيتحكم بتشكيل الحكومة المقبلة هو عدد نواب البرلمان الذين سيتمكن أردوغان من إدخالهم إلى البرلمان. فإذا أدخل ما بين 220 إلى 230 نائباً، فإنه سيعمل على استقطاب نواب من الأحزاب الأخرى على النحو التالي: ستقوم مجموعة من الأحزاب الثلاثة: «الشعب الجمهوري»، «الحركة القومية» و «الشعوب الديموقراطي» بالاستقالة من أحزابهم وتكوين مجموعة حزبية تحت إسم جديد، وسيقوم حزب «العدالة والتنمية» بتشكيل ائتلاف معهم لتشكيل الحكومة الجديدة.
لم يذهب أردوغان إلى انتخابات جديدة ليرضى بخسارة جديدة في انتخابات الأول من تشرين الثاني. يكاد يكون هناك إجماع في تركيا على أن إردوغان لن يقبل بخسارة السلطة الآن. وعود سخية ستعطى للنواب المرشح استقالتهم. النقطة المركزية هي أن أردوغان ليس مستعدا للتعايش الآن مع هزيمة سياسية كبرى.
لكن ماذا لو فشل في تحقيق سيناريو كهذا؟ يقول طانق إن حزب «العدالة والتنمية» ربما يخوض آخر انتخاباته بهذا الجسم الفضفاض، من دون أن يعني ذلك أن الحزب سيتلاشى من التاريخ، لكنه لن يظل الحزب الأول الذي يقود تركيا وحده. لعلها الزفرات الأخيرة لهذا الحزب الذي يرجح طانق أن يذهب مجددا إلى انتخابات في العام 2016، ما يعني أن انتخابات الأحد لن تجلب الاستقرار المنشود، وحتى ذلك الحين، فلا نية لأردوغان بالتقهقر، وما استخدام «الترهيب» بشتى الوسائل، سوى التعبير الصريح عن تلك النزعة.
جنان قالسين، نائبة سابقة عن حزب «العدالة والتنمية». تراهن هذه السيدة التي تولت ملف شؤون السياسة الخارجية في الحزب الحاكم، على أن الحزب سيخرج منتصراً من الانتخابات، لكنها لا تعلق آمالا كبيرة. تدرك المأزق السياسي الذي وصلت إليه البلاد بسبب العديد من السياسات الخاطئة. تقول جنان قالسين لـ «السفير»: «لا أعرف ما إذا كنا سنربح وحدنا ما يكفي لتشكيل حكومة بمفردنا. لكن بعض من لم يشارك في الانتخابات الماضية، قرر المشاركة الآن... كما أننا استقطبنا من أصوات المؤيدين لحزب الحركة القومية».
من لم يشارك يقرر المشاركة الآن بدافع الخوف على الاستقرار. الاستقطاب من أصوات القوميين، مرده لعب أردوغان ورئيس حكومته أحمد داوود أوغلو بورقة النزعة القومية في مواجهة التحدي الكردي. الدماء الكردية والتركية التي سقطت منذ تجدد حرب أردوغان على الأكراد في جنوب شرق البلاد وخارجها، في العراق وسوريا، تعطل مستقبلا أي شراكة ائتلافية محتملة بين «العدالة والتنمية» وحزب «الشعوب الديموقراطي» الذي خلط أوراق المشهد السياسي في انتخابات حزيران بتخطيه حاجز العشرة في المئة (لدخول البرلمان) ونيل 80 مقعدا في البرلمان.
لا تستبعد قالسين حصول انشقاق داخل الحزب الحاكم إذا لم يحصل على الغالبية المطلوبة للبقاء مسيطرا في البرلمان. الانتخابات بهذا المعنى، اختبار حقيقي لصلابة الحزب داخلياً. الخطر الحقيقي برأي قالسين هو أنه «لا لغة حزن مشتركة تجمع تركيا كلها». الدماء التي أريقت في تفجير أنقرة لم توحد الحزن التركي، تماماً مثلما لم توحد الدماء المراقة في جنوب شرق البلاد، الأتراك.
هذا مؤشر تفكك مجتمعي تخشاه قالسين. أما أونال طانق، فيراه مؤشراً، إلى جانب عوامل عدة، إلى ذهاب البلاد إلى حرب أهلية. وبشكل أدق يقول: «تركيا على حافة هاوية الدخول في حرب أهلية ولم يبقَ أمامنا سوى القليل لمنع الوقوع فيها». يقول المحلل السياسي البارز إن التفجيرين والاشتباكات شبه اليومية في أنحاء البلاد، تعني أن الرسالة يراد توصيلها من قبل القائمين على الدولة، فإما نحن أو الفوضى، وباعتقاده، فإنّ الناخب التركي تلقى الرسالة بوضوح، وسيختار الاستقرار ويراجع حساباته، ما قد يرفع حظوظ الحزب بنيل ما يقارب 300 نائب في البرلمان الجديد.
لكن التشرذم لاحقا هو المرجح، يقول طانق. الحزب تشكيل يجمع رجال الأعمال والصوفيين والقوميين والإسلاميين والليبراليين، وقد بدأت مصالح هؤلاء جميعا تتضارب، بالإضافة إلى أن القائمين على الحزب الآن ابتعدوا كثيرا عن المبادئ الأساسية التي قام عليها في العام 2002. قالسين تقر أيضا من جهتها، بأن الحزب لم يعد يشبه ما كان. طانق يقول إن المؤسسين الأوائل، والمؤمنين الحقيقيين بالحزب جرى تهميشهم أو محاصرتهم وإخراجهم تدريجيا لمصلحة «الانتهازيين والمتسلقين».
لا تقول الأرقام والإحصاءات الكثير قبل 72 ساعة على الانتخابات. المؤشرات متقاربة. لكن استطلاعات الرأي المتداولة في الساعات الأخيرة، تتحدث عن حصول «العدالة والتنمية» على نحو 41 في المئة من الأصوات (كانت 49.8 في المئة في انتخابات 2011، ثم 40.8 في المئة في انتخابات حزيران الماضي، وأدخلتا له 327 نائبا و258 نائبا على التوالي).
ووفق التقديرات ذاتها، فإن «الشعب الجمهوري» سيحصل على 28 في المئة (كانت 25.9 في المئة في العام 2011، و24.9 في المئة في انتخابات حزيران الماضي).
كما تشير التقديرات الحالية إلى أن «الحركة القومية» سيحصل على 14.2 في المئة من الأصوات (كانت 13 في المئة في العام 2011، و16.3 في المئة في حزيران الماضي).
أما مفسد فرحة الأردوغانيين، أي «حزب الشعوب الديموقراطي» فإنه حصل في انتخابات حزيران على 13.12 في المئة وأدخل ثمانين نائبا إلى البرلمان، بينما تشير التقديرات المتداولة حاليا إلى أنه سينال 13.8 في المئة.
الأسئلة والهواجس في انتخابات الأحد كثيرة. تناقضات علمانية وإسلامية وقومية وكردية، وصراعات داخلية وعابرة للحدود. خيارات أردوغان قليلة. هو باق، أما حزبه فمحل شكوك. لهذا يلعب بأوراق ملتهبة في الداخل والخارج. متفنن بالبقاء هذا الرجل ولو اقتضى منه الأمر الاصطدام بالجميع، بمن في ذلك حليفه التاريخي فتح الله غولين، والقضاء ورجال الأمن ومكافحة الفساد والأكراد والعلويون والعلمانيون والانغماس في بؤر النيران من حوله. الروس الآن على الأبواب يقضمون طموحاته السورية، وقالسين تقول إن تركيا أخطأت ولعبت أوراقها السورية بانحياز منذ البداية، فخسرت ما هو ممكن من دورها كطرف ووسيط محتمل، وبات أمننا القومي مهددا.
وفي هذا الوقت، فإن أردوغان يريد الغالبية البرلمانية والحكومة المنفردة التي لا شريك لها. ولهذا فإن لكل ورقة تصويت يوم الأحد، حساباتها. أردوغان لن يقبل أن تُكْتَبَ نهايتُهُ الآن.