التوسّط الأخلاقي (مأثرة ومظلمة).. بقلم:د.عبد الرزاق المؤنس

التوسّط الأخلاقي (مأثرة ومظلمة).. بقلم:د.عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٣ أكتوبر ٢٠١٥

تقول لنا الآية القرآنية: (وإنك لعلى خلق عظيم) بأن ليس الخلق في شخصية النبي الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مقصوراً في معناه على علاقته بالله، ولا هو مقصوراً في علاقته بأمته، وإنما هو في عناصر كيانه كله بحيث – يجعل من أمر الدين دنيا من روح الأخلاق تستوعب كل تفصيلات الحياة؛ فالخلق الحسن لا يقتصر على جانب من جوانب السلوك الإنساني لأن بيت القصيد أن يملأ معنى الإنسانية بكل كمال وجمال، وهذا ما لم تلتفت إليه ذهنيات الحركات الإسلامية القديمة منها والمعاصرة عندما فصلت محورية العقيدة عن حاكمية الأخلاق بوصفها روحاً تضبط إيقاع الإيمان عقلاً وفكراً وسلوكاً..، ولن يسد هذا النقص الخطير الذي لحق بأمتنا العربية خصوصاً من غير البحث عن الروابط التي تربط العقيدة بالأخلاق، وأن نفهم ونعلم أن هذه العقيدة وهذه الأخلاق يمكن أن تنجح الأمة باجتماعهما معاً، ويمكن أيضاً أن تنجح أي أمة على الأرض إذا تمسكت بالأخلاق وخصوصاً بأركانها في (العدل، وحفظ الحقوق، والعفو والتسامح، وأن يحب لغيره كما يحب لنفسه، والحذر من الغدر والحسد والبغضاء)، ولابد أن يرافقنا ونحن نتداخل بين ثنيّات هذه العناوين والقيم العريضة النص الرباني الرقابي والتحقيقي: (يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقْتاً عند الهق أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف 2-3، وربما أفادتنا بلاغة التطابق بين الفكر والسلوك في التأكيد على أن تجري أخلاق التواصل والتراحم في المجتمع وكأنها جزء من طبع لا تَكّلف فيه ولا تصنّع، وهنا ترجو هذه المقاربة القرآنية الاجتماعية إلى إلفات نظر الفقهاء إلى رد الاعتبار لفقه الأخلاق لنصوغ بمنظومته فقه الاجتماع الديني والاجتماع السياسي على أصول مباني التراحم والتواصل في كل ما ينبثق عنها من فروع تندمج فيها عناصر الوحدة الوطنية كمثال يُحتذى لوحدة إنسانية أشمل، والهدف من هذا التواصل والتراحم في النصوص القرآنية والنبوية هو إيجاد الجواب عن سؤال القطيعة من جانبه الأخلاقي وبين تفصيلاته التي تُساق لضبط الحدود المعقولة والعرفية لثقافة الواجب والمحرم في الفقه الإسلامي على منظور الأسبقيات التعريفية بهذه الثقافة، ومراعاة الاستعدادات في الناس والمجتمع، ثم في تقديم البدائل التوفيقية التي تملأ الحاجات الإنسانية وفق التناسب الفطري والطبعي لحاجات الناس ولرغباتهم لئلا يُضيق عليهم التدين والدين الذي ينفي الحرج، ولئلا يبقى مجال من ضعف إرادي ينزلقون بسببه إلى مساقط الخطيئة، ومن ثم يضعفون تجاه مسؤولية الخطاب الإسلامي المعاصر وموقفه من ظاهرة القطيعة داخل أوطاننا المحاصرة بتحديات الاحتلال..
وقد عبر الحديث النبوي عن ظاهرة الاغترار بالأسلمة الدينية، ومن ورائها عبث سخائم الكراهيات والبغضاء والتكبر التي تحول المسلم إلى الكفريات، ويبطل على أثرها كل مفعول قرآني وديني إسلامي في الحضارة والحياة وهو لا يدري؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ومقاربة معه أيضاً الحديث: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد، ومن هنا حل البلاء بهذه الأمة وفي أوطانها، ولم تنفعها جميع قداسات النصوص المنفصلة عن تكافؤ النفوس، فإن الله تعالى عندما قال: (إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وهنا لم يخص به أمة العرب والمسلمين فحسب بل إن أي أمة في الأرض وفي العالمين ولو كانت كافرة إذا تواصت على العدل والتعاون وحفظ الحقوق من غير أن تعصي أي كلمة من القانون الحضاري أو الوطني الحكيم فإن الله يثبتها ويطمئنها، وهذا ما تشير إليه كلمة (ما بقوم)، والتغيير هنا هو طرح الظلم والعدوان بكل أشكاله في القوم، بينما نجد أن الله تعالى يقهر ويذل الأمة المسلمة إذا تعاملت فيما بينها أفراداً وأقواماً وأوطاناً على القهر والكذب والنفاق، ولن تنفعها أي مأثر وشرف نسب إليها إلى جوار ذلك حتى ولو لبست (عِمّة) النبي صلى الله عليه وسلم ما دامت في الحقيقة قد تعرت عن أخلاقه وهَدْيه ومحبته ورحمته للعالمين..
ومن فضائل ما كتبه الإمام الغزالي في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) معالجته لإشكالات الفكر المتطرف في مجال الاعتقاد الديني، والفكرة الرئيسة التي يدور حولها هذا الكتاب هي وجوب استخدامنا لعقولنا عند فهمنا لنصوص الشرع، وذلك بأن نلتمس بين الطرفين طريقاً تُصان فيه أحكام الشرع وأحكام العقل معاً فلا يصح أن تجمد النصوص جموداً يجعلنا في تناقض مع منطق العقل وفق مظاهر ما نراه من تثاقل وتخلف وغباء في تقدير المصالح على جميع المرافق والمستويات، وكأننا بذلك قد رضينا بل اتفقنا عن عناد بتعطيل (وعملوا الصالحات)؛ وما الفرق بين هذا الكفر العملي بهذه الكلمة القرآنية العظيمة وبين الاتهام بالكفر لمن يُلغي حروفها من النص؟!
(يتبع)