موجات الغضب «المجنونة» في واشنطن!..بقلم: د. منار الشوربجي

موجات الغضب «المجنونة» في واشنطن!..بقلم: د. منار الشوربجي

تحليل وآراء

الأربعاء، ٧ أكتوبر ٢٠١٥

استقالة رئيس مجلس النواب الأميركي رغم أنها كانت مفاجئة إلا أنها لم تكن مستغربة. فالمتخصصون في دراسة الكونجرس الأميركي، من أمثالي، كانوا يعلمون أن الإطاحة بجون بينر من منصبه مسألة وقت. لكن جون بينر، رئيس المجلس فضل أن يستقيل بدلاً من أن يطاح به.
وقصة استقالة بينر تستحق الاهتمام لأنها تذهب لما هو أبعد من الصدام بين بينر ومن أرادوا الإطاحة به وتمس طبيعة السياسة الأميركية الداخلية والخارجية فى الوقت الراهن ومستقبلها فى الأمد المنظور.
فمن أرادوا الإطاحة بجون بينر الجمهوري، لا ينتمون للحزب الديمقراطي المنافس وإنما ينتمون لحزب بينر نفسه الذى يتولى اليوم مقاعد الأغلبية في المجلسين.
والسبب وراء رغبتهم في الإطاحة به لم يكن أن بينر ليس يمينياً بالقدر الكافي، وسط حزب يمثل التيار المحافظ في أميركا، وإنما لأن بينر ليس صدامياً بالقدر الكافي!
والحقيقة أن مسألة الصدامية التي صارت عنواناً ضخماً للحزب الجمهوري بدأت في الثمانينات حين كان الحزب في مقاعد الأقلية. وكان صاحب الفكرة التي تحولت لاستراتيجية هو نيوت جينجريتش الذي تولى لاحقاً رئاسة مجلس النواب.
وقتها كان جينجريتش نائباً في المجلس يحلم بالدفع بحزبه لمقاعد الأغلبية.
وكانت استراتيجيته في ذلك هي الصدام والهجوم العلني الدائم على زملائه الديمقراطيين. والهدف كان تكوين مزاج عام غاضب يؤدي مع الوقت للإطاحة بالديمقراطيين من مقاعد الأغلبية.
لكن استراتيجية جينجريتش كانت وقتها مناهضة تماماً لثقافة المؤسسة التشريعية الأميركية التي كانت تقوم على الاحترام المتبادل بين أعضاء الحزبين وتفرض عليهم التعاون والتوافق لأن بغيرهما لا تسمح قواعد عمل المؤسسة بإنجاز أي عمل على الإطلاق.
لكن مع الوقت، صار جينجرتش وفريقه في مواقع قيادية وواتتهم الفرصة بتولي بيل كلينتون الرئاسة في 1993 فكانت الاستراتيجية هي الصدام الكامل مع الرئيس والديمقراطيين وأدت الاستراتيجية فعلاً للإطاحة بالديمقراطيين من مقاعد الأغلبية في انتخابات 1994 التشريعية لأول مرة منذ أربعين عاماً. لكن تطرف الاستراتيجية الصدامية ووصولها إلى مدى بائس، هو الذي أدى لإعادة انتخاب كلينتون لفترة ثانية، بل والإطاحة بعد ذلك بنيوت جينجريتش نفسه من رئاسة مجلس النواب.
لكن الحزب الجمهوري ظل ينحو يميناً ويزداد تطرفاً حتى بعد أن تولى بوش الابن الذي دخل وقت توليه الحكم عدد لا بأس به من الأعضاء الجمهوريين الجدد في مجلسي النواب والشيوخ أكثر يمينية من الأعضاء الأقدم.

وحين تولى أوباما الرئاسة عاد التفكير في استراتيجية الصدام، التي تولاها هذه المرة جيل جديد من الأعضاء الأصغر سناً والذين قادوا حملة شبيهة لحد كبير بحملة جينجرتش في التسعينات ولكنها ذهبت لمدى أبعد ليس فقط في رفضها المطلق لأي سياسات يتبناها أوباما وإنما في غضها الطرف بل وتشجيعها أحياناً لمواقف بالغة التطرف من مرشحين لمقاعد المجلسين، كان كل المطلوب منهم أن يكونوا أعضاء في معسكر الصدام والتحدي للديمقراطيين والرئيس.

لكن مصير جينجرتش تكرر في 2014 مع أحد القائمين على تلك الحملة، إريك كانتور، زعيم الأغلبية الجمهوري الذي فوجئ بهزيمته في دائرته من جمهوري أكثر يمينية وصدامية منه. وجون بينر، رئيس مجلس النواب المستقيل، كان صدامياً هو الآخر ولكن ليس بالقدر الذي يريده لذلك الفريق. فالرجل بحكم منصبه كان عليه أن يصل لحلول توفيقية في بعض الأحيان. وهو ما وصفه بنفسه في تصريحه الذي أدلى به بعد إعلان الاستقالة قائلاً «عندنا مجموعة.. من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ يدفعون الناس دفعاً لنوبات مجنونة للاعتقاد بإمكانية تحقيق أمور، يعلم هؤلاء (يقصد الأعضاء)، يعلمون جيداً أنها لن تحدث أبداً».

لكن المرشح لخلافة الرجل هو زعيم الأغلبية الحالي، كيفين ماكارثي، الذي كان أحد قادة حملة الصدام الكامل مع أوباما والأقلية الديمقراطية. وهو بدأ حملته لمنصب رئيس المجلس بتصريح كاشف قال فيه صراحة لأول مرة ما يفيد بأن لجنة المجلس المعنية بالتحقيق في أحداث بنغازي كانت هدفها الحقيقي القضاء على فرص هيلارى كلينتون في تولي الرئاسة. لكن المفارقة الجديرة بالأهمية هي أن كيفين ماكارثي، لأنه كان في موقع المسؤولية زعيماً للأغلبية، فقد كان لابد أن ينجز، الأمر الذي كان يعني ضرورة أن يتعاون أحياناً مع الديمقراطيين. لذلك، توجد حملة حالية من جانب فريق الصدام الجمهوري للحيلولة دون توليه رئاسة المجلس!

ولكل ذلك تأثيره على السياسة الخارجية الأميركية. فالصدامية التي يتبناها الجمهوريون بخصوص السياسة الخارجية لأوباما ليست استثناء من قاعدة ولا هي تعني بالضرورة أن في جعبتهم سياسات بديلة. فهو صدام هدفه الأساسي سياسي لا سياساتي. فهو لا يهدف لصنع سياسة خارجية بعينها وإنما يهدف لعرقلة السياسة الموجودة بالمطلق ودفع الناس لمزيد من «نوبات مجنونة» من الغضب، على حد تعبير جون بينر، هدفها الرئيسي الإطاحة بالديمقراطيين دون أن يعني ذلك بالضرورة امتلاك سياسة بديلة.