الأسوأ والمفاجئ في المشهد الفلسطيني.. بقلم: فهمي هويدي

الأسوأ والمفاجئ في المشهد الفلسطيني.. بقلم: فهمي هويدي

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٦ أكتوبر ٢٠١٥

في المشهد الفلسطيني إشارات مستجدّة تستحقّ الرصد والانتباه، خصوصاً ونحن نحيي اليوم ذكرى «حرب 6 أكتوبر» التي كانت إسرائيل فيها عدواً.
(1)
حين رفع العلم الفلسطيني على مبنى الأمم المتحدة ومكاتبها بنيويورك في الأسبوع الماضي. كانت إسرائيل قد فتحت باب «الرحمة» الذي أغلقه صلاح الدين قبل 800 سنة لصد الغزاة القادمين من الشرق، وذلك تمهيداً لإقامة كنيس لليهود داخل باحة المسجد الأقصى ضمن مشروعهم لاقتسام المكان مع المسلمين. الحدث الأول الذي رفرف بمقتضاه العلم الفلسطيني في سماء نيويورك كان محل حفاوة كثيرين. إذ أبرزته جريدة «الأهرام» وجعلته عنواناً رئيساً لصفحتها الأولى (عدد الأول من تشرين الأول)، ونقلت عن الرئيس الفلسطيني الذي حضر المناسبة مع الأمين العام للأمم المتحدة قوله إنه يوم «فخر واعتزاز». أما الحدث الثاني، على خطورته، فلم يأت على ذكره أحد، باستثناء الصدى المتوقع بين الفلسطينيين في الأرض المحتلة وبيانات الشجب التقليدية التي صدرت عن بعض العواصم العربية. وإذ استوقفتني المفارقة، فإني وجدت أن رفع العلم الفلسطيني على مباني الأمم المتحدة خطوة جديرة بالحفاوة حقاً، لكنها تظل إنجازاً أدبياً وسياسياً يقدر في تلك الحدود. في المقابل، وجدتُ فتح باب الرحمة بعد إغلاقه طوال ثمانية قرون إنجازاً إسرائيلياً لم يجرؤ أحد من القادة الصهاينة على الإقدام عليه منذ احتلال القدس في العام 1967. ووجدت أن المقابلة والتزامن بين الحدثين لهما دلالة عميقة تصوّر حقيقة العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ذلك أن إسرائيل ظلّت طوال الوقت معنية بالأرض. وتركت الحرية للفلسطينيين والعرب أن يتحركوا في الفضاء كما يشاؤون، لذلك قلت في التعليق على المشهد إن الإسرائيليين أكلوا الأرض والفلسطينيين والعرب أكلوا الهواء. عبر عن ذلك أبو مازن في الأسبوع الماضي أمام الأمم المتحدة، حين ذكَّر الجميع بـ «اتفاقية أوسلو» التي نصت على مرحلة انتقالية مدتها خمس سنوات. بعدها يتمتع الفلسطينيون بالاستقلال التام في «دولتهم». ولكن إسرائيل التي تعهّدت بذلك منذ 22 عاماً تركت الفلسطينيين يأكلون الهواء. وتمددت على الأرض حين زادت من الاستيطان بنسبة 20 في المئة، وظلت تتحدّث عن مفاوضات السلام في حين لم تتوقف عن ابتلاع الأرض وتمعن في تهويد القدس. وها هي تحاول الانقضاض على المسجد الأقصى بكل جرأة وصفاقة.
(2)
لم تكن تلك المفارقة الوحيدة. لأن صدى الهجمة الشرسة على المسجد الأقصى في الوقت الحاضر لا تكاد تقارن بأصداء إحراق جزء من المسجد القبلي في آب 1969. وهي الجريمة التي أثارت غضب العالم الإسلامي آنذاك، واستدعت عقد القمة الإسلامية التي قررت إقامة «منظمة المؤتمر الإسلامي» التي كان الدفاع عن القدس أحد أهم أهدافها. ذلك أننا بعد مضي 50 عاماً على الحريق الأول لم نجد أثراً لغضب الدول الإسلامية، باستثناء بيانات الشجب والاستنكار ومطالبة المجتمع الدولي بأن يتحمّل مسؤوليته إزاء الهجمة الإسرائيلية على أبرز مقدسات المسلمين بعد الكعبة، وهي المطالبات التي كانت بمثابة إشهار ضمني للإفلاس وإعلان عن تخلي تلك الدول عن مسؤوليتها السياسية والدينية والتاريخية. وكان مثيراً للدهشة والخجل أن يسود السكون أرجاء العالم العربي والإسلامي (ماليزيا خرجت منها مظاهرة ومظاهرات الضفة الغربية مُنِعت وقُمِعت). وهو ما يحتاج إلى دراسة تحلل الفرق في الهمة والغيرة والمسؤولية بين عالم ستينيات القرن الماضي بأنظمته وشعوبه وبين عالم العشرية الثانية من الألفية الجديدة. إذ برغم أننا لم نفعل الكثير آنذاك ــ حين وقع الحريق الأول ــ إلا أن الحدث كان له دويُّه والتحرك كان عند حده الأدنى. أما في الوقت الراهن، فإن الصدى كان دون الحد الأقصى بكثير. ذلك برغم أن الهجمة اكتسبت طابعاً أكثر جرأة وأشد خطراً، سواء بسبب الرعاية الحكومية للعدوان على الأقصى (كان أحد الوزراء بين المقتحمين) أو بسبب انكشاف الأهداف المتمثلة في الاقتسام الزماني والمكاني برمزيته الكبرى في الضمير العربي والإسلامي إضافة إلى رمزيته للقضية الفلسطينية. وإذ بدا ذلك استهتاراً وازدراء بمشاعر المليار مسلم، فإنه كان بمثابة إلغاء لنصوص اتفاقية السلام التي وقعت بين الأردن وإسرائيل العام 1994، وبمقتضاها خضعت المقدسات الإسلامية في القدس لإشراف المملكة الأردنية.
إننا لم نلمس إجراء ديبلوماسياً ذا قيمة عبّر عن غضب الدول العربية التي ارتبطت بعلاقات رسمية مع إسرائيل، أو تلك التي تعاونت معها بصورة وثيقة وغير رسمية. وبدا مدهشاً أيضاً أنه في الوقت الذي لا يكفّ الخطاب السياسي والإعلامي العربي عن التنديد بالإرهاب وقرع طبول الحرب ضده، فإن جرائم إسرائيل التي تستهدف المسجد الأقصى والتي تلاحق الفلسطينيين بالأرض المحتلة طول الوقت لم تصنّف ضمن إرهاب المرحلة. وظل «حق الأقصى» مهدوراً ومنسياً.
(3)
لم يكن ذلك أسوأ ما في الأمر، لأن شواهد الأسوأ لاحت تباعاً في العالم العربي في تزامن صادم مع الهجمة الإسرائيلية الشرسة على المسجد الأقصى. من ذلك مثلاً أننا فوجئنا بأن قناة «الجزيرة» بثت يوم 21/9 حواراً مع السيد إياد مدني، الأمين العام لـ «منظمة التعاون الإسلامي» (الاسم الجديد لـ «منظمة المؤتمر الإسلامي»)، دعا فيه ضمناً إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وجاءت دعوته ضمن مطالبته المسلمين بشدّ الرحال إلى المسجد الأقصى، لدعم صمود المقدسيين تحت الاحتلال، وذلك بحجة إنعاش أوضاعهم الاقتصادية وتنشيط حركة السياحة في المدينة. وفات على أمين «منظمة التعاون» أن شدّ الرحال الذي يدعو إليه لن يتمّ إلا من خلال طرق أبواب السفارات الإسرائيلية والمرور بالمعابر والبوابات الإسرائيلية، في حين أن أغلب دول المنظمة (57 دولة) ليست لها علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل، وفاته أيضاً أن مخططات اقتحام الأقصى وانتهاك حرمته تتسارع هذه الأيام، بعدما قطعت إسرائيل شوطاً في التقسيم الزماني للأقصى بين المسلمين والإسرائيليين (الاقتحامات تستمر يومياً تحت حراسة الشرطة ليقيم الإسرائيليون صلواتهم التوراتية بين السابعة والحادية عشرة صباحاً). كما أن إجراءات التقسيم المكاني قادمة في الطريق. وهي ملابسات كانت تفرض على أمين «منظمة التعاون» أن يدعو لإنقاذ الأقصى من الهجمة التي تستهدفه وليس إلى شدّ الرحال إليه وتنشيط السياحة في المدينة.
كان غريباً أن تصدر الدعوة عن أمين «منظمة التعاون» التي أنشئت بناء على اقتراح للملك فيصل، رحمه الله. إلا أن الذي لا يقلّ غرابة عن ذلك أن تتناقل التقارير الصحافية أخباراً ومعلومات عن لقاءات بين مسؤولين سعوديين سابقين وبين سياسيين ومسؤولين إسرائيليين، الأمر الذي سوّغ للمدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية دوري جولد أن يدّعي بأن «المملكة العربية السعودية حليف لإسرائيل». هذا التصريح الأول من نوعه في تاريخ الديبلوماسية الإسرائيلية صدر على لسان الرجل أثناء مؤتمر نظمته في واشنطن اللجنة المركزية ليهود أميركا، ونشرته صحيفة «معاريف» في 30 تموز الماضي. ومشهورة قصة الصورة التي جمعت بين دوري غولد وأنور عشقي وهو لواء سابق في الجيش السعودي ويدير الآن مركزاً للأبحاث، ويتردّد أنه أحد مستشاري الحكومة، وكان الاثنان يشاركان في ندوة أقيمت بواشنطن حول الاتفاق النووي مع إيران.
لفت الانتباه في هذا السياق موقع «يديعوت أحرنوت» الإخباري الذي ذكر أن لقاء تمّ في نيويورك يوم 30 أيلول الماضي بين الأمير السعودي تركي الفيصل مدير المخابرات والسفير الأسبق في واشنطن ولندن، وبين يائير لبيد زعيم حزب «هناك مستقبل» الإسرائيلي، المعروف بمعارضته لحق العودة ولتقسيم القدس. وذكر الموقع أن الاثنين بحثا في تنظيم مؤتمر سلام إسرائيلي - عربي. وقد نشرت جريدة «السفير» في عدد أول تشرين الأول تقريراً عن اللقاء. نقل عن السياسي الإسرائيلي قوله إنه جزء من ترتيبات تجرى في واشنطن وأن الأمير تركي الفيصل لم يصل مثلاً لنفسه، إذ ليس في السعودية شيء من ذلك القبيل.
في هذه الأجواء، نشرت صحيفة «معاريف» في 28 أيلول الماضي مقالة للجنرال آفي بنياهو المتحدث الأسبق باسم الجيش الإسرائيلي طرح فيها فكرة شاذة ومستهجنة. إذ تحدّث عن ضرورة مواجهة الخطر الذي تمثله حركة المقاطعة الدولية لإسرائيل، وقال إن أنجح وسيلة لإجهاض تلك الحركة وإفشال مساعيها هي أن يُستعان في ذلك بالتحالف الاستراتيجي بين إسرائيل والوضع القائم في مصر واستخدام نفوذها في تحقيق ذلك الهدف. إذ اعتبر أن الرئيس السيسي الذي وصفه بأنه «هدية الشعب المصري» هو الوحيد القادر على إنقاذ إسرائيل من المقاطعة الدولية (كانت العبارة عنوان الصفحة الأولى الرئيس لصحيفة «جيروزاليم بوست» التي صدرت في أول شهر تشرين الأول الحالي).
(4)
إزاء تتعدّد شواهد الحيرة والإحباط، برز في الأفق ضوء يخفف من وطأتها إذا ما حولنا النظر من الفضاء السياسي والإعلامي إلى الواقع المصري. تمثل الضوء في نتائج استطلاع الرأي العام الذي أجراه «المركز المصري لبحوث الرأي العام» (بصيرة) يوم الأربعاء 23/9. وكان المركز قد استطلع عينات المصريين بأسئلة حول أقرب الأصدقاء وأعدى الأعداء. وجاءت النتائج بحصيلة خلاصتها أن أقرب الدول العربية الصديقة لمصر هي السعودية أولاً وبعدها الإمارات والكويت. أما الأقرب من بين الدول غير العربية فكانت الصين وبعدها روسيا بفارق بسيط. ولفت النظر أن إثيوبيا التي تبني «سد النهضة» الذي يقلق مصر، اعتبرت بين الأصدقاء.
قائمة أعداء مصر اكتسبت أهمية خاصة لسبب جوهري هو أن إسرائيل احتلّت المركز الأول بجدارة، إذ حصدت 88 نقطة. أما الولايات المتحدة التي جاءت في المرتبة الثانية فكانت نسبة عدائها أقل، إذ حصلت على 37 نقطة وبعدهما إيران (36 نقطة) ثم تركيا (34 نقطة) وقطر (31 نقطة).
تحتاج النتائج إلى تحليل لتحديد العوامل التي أفضت إليها، خصوصاً الدور الذي أسهمت به عوامل التجاذب السياسي والتعبئة الإعلامية. إلا أننا لا نستطيع أن ندرج تلك العوامل في تفسير تصنيف إسرائيل باعتبارها أعدى الأعداء، نظراً لعمق أسباب رفضها إضافة إلى محدودية التجاذب والتعبئة المضادة على ذلك الصعيد في الظروف الراهنة. بل أزعم في هذا الصدد أن الهجوم الإعلامي على الإدارة الأميركية والولايات المتحدة أصبح أقوى في الإعلامي المصري من الهجوم على إسرائيل. ومع ذلك حصلت إسرائيل على أكثر من ضعف حصة أميركا (88 نقطة للأولى و37 للثانية). وبرغم أن بعض الأصوات في الإعلام المصري والعربي أصبحت تتحدث عن إسرائيل باعتبارها دولة «صديقة»، إلا أن حجم الرفض لها في أوساط الرأي العام لايزال ثابتاً وقوياً، كما رأيت. وهو ما يطمئننا إلى أنه برغم مضى نحو أربعين عاماً على اتفاقية السلام التي وقعها الرئيس الأسبق أنور السادات مع الإسرائيليين العام 1979، فإن التطبيع لم يتم، وظلت مشاعر المصريين كما هي، واستمر طول الوقت سلاماً بارداً بين الحكومات، التحقت به أقلية لها حساباتها أو قناعاتها المغايرة.
لا أبالغ إذا قلت إن ذلك ليس رأي المصريين وحدهم، وإنما هو أيضاً رأي الشعوب العربية كلها، من ثم فإن السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة هو: إذا كان ذلك رأي الشعب المصري وغيره من الشعوب العربية، فعن أي طرف إذاً تعبّر السياسات المعلنة؟