الحضور العسكري الروسي في سورية، تفاهمات في عالم قديم أم صراع على أعتاب عالم جديد؟

الحضور العسكري الروسي في سورية، تفاهمات في عالم قديم أم صراع على أعتاب عالم جديد؟

تحليل وآراء

الأحد، ٤ أكتوبر ٢٠١٥

كتب سمير الفزاع
بإيجاز وتكثيف شديدين، سأحاول تقديم أجوبة عن السؤالين الملحين التاليين: هل جاء التحرك العسكري الروسي في سورية "بالتفاهم" مع واشنطن أم لا، وبماذا تخبرنا وقائع الميدان التي لا تخدعنا أحياناً كما "السياسة"؟ في البداية يجب أن نميز بين مصطلحين هامين في العلاقات الدولية: الإعلام بمعنى الإخبار وإعطاء العلم بالشيء... مثلاً، المناورات الروسية قبالة السواحل السورية والقبرصية، حيث أعلنت موسكو عن موعد المناورة وطبيعة الأسلحة المستخدمة، وميدان هذه المناورة... حتى لا تتعرض حركة الملاحة الجوية أو البحرية لخطر الإصابة، ومنعاً لوقوع أي حادث عرضي قد يؤدي إلى حرب لا يريدها أحد... والتفاهم بمعنى التنسيق، في مواعيد وخطوات العمل، ومساره الإجرائي وعناوينه العريضة والتفصيلية... كما حصل في الإتفاق النووي الإيراني. لمن يقول بأن روسيا تأتي إلى سورية بالإتفاق مع أمريكا، إليه بعض الأسئلة الكاشفة: هل يمكن لواشنطن أن تسمح لموسكو أن تنجح حيث فشلت؟. هل تمكنت واشنطن من إسقاط الرئيس الأسد وخلال أسابيع قليلة، الهدف المعلن لها ولأدواتها منذ اليوم الأول للحرب على سورية قبل خمسة أعوام تقريباً، كما أظهرت التصريحات والوثائق من عدد كبير من العواصم؟. هل نجحت واشنطن في إخراج سورية من محور المقاومة الذي حطم مشاريعها في العراق ولبنان وفلسطين حتى تتراجع؟... هذه الأسئلة وغيرها تدفعني دفعاً للإفترض بأن التحرك الروسي جاء مفاجئاً لواشنطن، وبعكس رغباتها، وبعيداً عن التنسيق معها... وهذه بعض الأدلة لتأكيد صدقية هذا الإفتراض: 1- الجسر الجوي-البحري الذي أعلنت القيادة الروسية عن إطاره الزمني (1/9-24/9) نفذ عشرات الرحلات الجوية والبحرية إلى سورية ناقلاً أسلحة وذخائر ومعدات... بعضها كان على أسطح السفن خارج عنابر ومساحات التخزين، ودون بذل أي جهد لإخفائها... وفي هذا الإجراء تحد واضح لأمريكا. وعندما حاولت واشنطن عرقلة نشاط الجسر الجوي بالتأثير على بعض العواصم لمنع الرحلات المباشرة عبر أجوائها، ردّت روسيا على مستويين: إستخدام طريق بديل خلال سويعات: روسيا-أذربيجان-إيران-العراق-سورية... ما يُؤكد تحسب روسيا لأي محاولة أمريكية تعرقل مساعيها لا دعمها. وأما الرسالة الروسية الأبلغ والأقسى، فكانت بإرسال عدد من الطائرات الحربية يرافقها طائرة للتزود بالوقود في رحلة مباشرة إلى سورية، يسهل رؤيتها بالعين المجردة وليس تتبعها على شاشات الرادار فقط!. 2- من الواضح بأن العلاقات الروسية الأمريكية تمر بحالة من التأزم والإشتباك منذ خديعة "الربيع العربي" المشؤم، وتصاعدت بشكل كبير عقب الحرب على سورية والأزمة الأوكرانية... فقد توقفت اللقاءات المباشرة بين الرئيسين الروسي والأمريكي منذ عامين، و"جُمّد" الخط الساخن بين واشنطن وموسكو. كما فرضت واشنطن والإتحاد الأوروبي عقوبات إقتصادية ومالية قاسية جداً على روسيا لإجبار رؤوس الأموال على الهرب منها، وزعزعت سعر صرف الروبل... وأشعلت حرب شعواء لتخفيض أسعار النفط لخفض عوائد موسكو من النفط والغاز... كما نشر النيتو محطات للدرع الصاروخية، وقاذفات نووية في بلدان محاذية لروسيا... كل ذلك لإجبارها على الرضوخ والتراجع، لكن موسكو قررت المواجهة والتصعيد، والدفاع من مصالحها ومصالح حلفائها... فلا يمكن الحديث -والأجواء على هذا الحال- عن "تفاهم" روسي-أمريكي حول الوجود الروسي في سورية. 3- ينسى البعض أن هناك إمبراطوريات كبرى إنقرضت، وأخرى صارت لا ترى الشمس بعد أن كانت لا تغيب عنها... وينسى أن أمريكا التي "إشترت" من "بريطانيا العظمى" مستعمراتها مقابل 400 مليون دولار في مؤتمر برمودا 1957، ومن الإتحاد السوفيتي بعض جمهورياته وحلفائه بعدة مليارات من الدولارات عشية إنهياره... ستكون مضطرة في مرحلة ما إلى إخلاء مستعمراتها لإمبراطورية أخرى... وأن روسيا اليوم ليست روسيا غوربتشوف أو يلتسين، إنها روسيا فلاديمير بوتين الذي هدد بإجتياح نصف أوروبا الشرقية بما فيها "كييف" خلال أيام معدودة إبان الأزمة الأوكرانية. 4- السبت 30/أيار2014، دخلت مدمرة أمريكية البحر الأسود قادمة من ميناء "كونستانتسا" الروماني باتجاه المياه الإقليمية الروسية. سارت المدمرة على طول حافة المياه الإقليمية الروسية، رأت موسكو أن "تصرف طاقم السفينة كان استفزازيا وعدوانيا" ما أثار قلق رجال محطة المراقبة وأطقم سفن الأسطول العاملة في البحر الأسود. تلقت مقاتلات سوخوي-24 أمرا بالإقلاع، وأظهرت للطاقم الأمريكي استعدادها لمنعهم من تجاوز الحدود مهما كانت العواقب، وعند ذلك غيرت المدمرة بشكل طارئ اتجاهها وذهبت إلى المياه الدولية في الجزء الشرقي من البحر الأسود... وعلّق مصدر عسكري روسي رفيع حرفياً:"على الأمريكيين أن لا ينسوا حادثة نيسان/2014". فما هي قصة حادثة نيسان؟. تمكنت قاذفة "سوخوي-24" واحدة فقط مجهزة بمعدات "خيبيني" للحرب الإلكترونية من تعطيل كل ما لدى المدمرة الأمريكية "يو-اس-اس-دونالد كوك" من أسلحة من دون إطلاق النار، وحلقت قاذفة الـ"سوخوي 24" فوق المدمرة الأمريكية 12 مرة!. وأعلن ستيف وورن، المتحدث الرسمي باسم البنتاغون، أن تحليق الطائرة الروسية "الاستفزازي" ضرب معنويات البحارة الأمريكيين حتى أن "27" من طاقم المدمرة قدموا طلب إنهاء الخدمة العسكرية... لقد إنهارت معنويات طاقم المدمرة عندما فوجئوا بتعطل ما لدى البارجة من أجهزة رصد وتصويب إلكترونية، وشاهد البحارة الأمريكيون كيف أن القاذفة الروسية "القديمة" تحلق فوق سفينتهم، وتقوم "بتمثيل" الهجوم وهم في حالة عجز كامل أمامها ولا قدرة لديهم على إستهدافها بأسلحتهم "المتطورة"... ما يؤكد سعة وعمق التحول الإستراتيجي في ميزان القوى الدولي لصالح موسكو. 5- الثلاثاء 3/9/2013، وزارة الدفاع الروسية تعلن إن أجهزة الرصد المبكر الروسية رصدت إطلاق صاروخين من منطقة وسط البحر المتوسط باتجاه الضفة الشرقية منه، وتم رصدهما حتى سقطا في البحر المتوسط، وقد تمّ إبلاغ الرئيس بوتين بالأمر. اللافت بقصة هذه الصواريخ نفي بريطانيا أي علاقة لها بها، وإعلان الكيان الصهيوني بأنّه "لم يتم رصد إطلاق أي صواريخ شرق المتوسط" ثم تأتي المفاجأة من أميركا، ليقول متحدث عسكري أميركي:البحرية الأميركية لم تطلق أي صواريخ من سفنها... ثم عاد كيان العدو ليتبنى إطلاق صاروخ واحد ضمن تدريب وإختبار مشترك مع القوات الأميركية الموجودة في المتوسط، مع العلم بأن وزارة الدفاع الروسية الحاضرة بقوة في شرق المتوسط وبعيون متنبهة تماماً قالت بأنه تم رصد صاروخين. يمكن تلخيص المشهد كالتالي :بعد إدخال البارجات الأمريكية المزودة بمنصات إطلاق صواريخ كروز وتوماهوك إلى شرق المتوسط قامت بإطلاق صاروخين جوالين في إطار تهديدها لسورية بعملية "خاطفة ومحدودة" لكن روسيا تمكنت من "التحكم" بهذين الصاروخين –كما فعلت مع البارجة الأمريكية- وحرفهما عن مسارهما، في رسالة قاسية إلى واشنطن: ممنوع مهاجمة سورية، وإذا ما هاجمتموها لن نقف مكتوفي الأيدي، إكتفينا بالدفاع "السلبي" هذه المرة، ولن تعرفوا كيف سيكون ردنا في المرة القادمة!. 6- للمرة الأولى يقول الرئيس بوتين "جيش الرئيس بشار الأسد"، وهذا المصطلح الجديد لا يمثل لحاقاً بركب واشنطن وأدواتها الذين إخترعوا مصطلح "الجيش الأسدي"؛ بل هو ربط يقطع الطريق على خطة غربية-عربانية ترمي إلى الفصل بين مؤسسات الدولة وفي مقدمتها الجيش العربي السوري، وبين الرئيس بشار حافظ الأسد... لتحطيم معادلة الصمود والنصر السوري من جهة، ولخلق شرخ بين هذه المؤسسة والرئيس الأسد من جهة ثانية، وبين الشعب العربي السوري وهذه المؤسسة إذا ما أصرت على الإلتحام بقيادتها من جهة ثالثة. ما لا يريد أن يفهمه الطرف الآخر وخصوصاً بعض القادة العرب والكثير من الشعوب المخدوعة... أن روسيا ما كانت لتقوم بهذه النقلة النوعية الكبرى في الميدان السوري لولا يقينها بقدرة الرئيس الأسد على الإنتصار، حيث لا يمكن نًصر أي قائد هزمه وتخلى عنه شعبه وجيشه وحلفائه. 7- لعامين تقريباً، والعالم كلّه مشغول بداعش وحركتها وأجرامها وتمويلها... وينسى أن أداة الغزو الإرهابي هذه إستفادت من أكبر وأسرع وأوسع عملية تسليح وتمويل في التاريخ البشري، نفذتها واشنطن تحت مرأى ومسمع العالم كلّه، عندما سمحت لداعش –بغطاء جوي كامل منها- بالسيطرة على ألآف الدبابات والمدرعات وناقلات الجند والراجمات والمدافع... وملايين الدولارات ومليارات الدنانير العراقية وكميات ضخمة من الذهب والآثار... لتجعل منها القوة البرية الرئيسية التي تنفيذ مشروعها الإستراتيجي لإعادة رسم خرائط المنطقة... من هنا، ما هزيمة داعش وأخواتها إلا هزيمة كاملة لأمريكا. كلمة أخيرة: بالأمس إشتكى بوقاحة متناهية السيناتور الأمريكي المتصهين جون ماكين، لأن مقاتلات روسية قصفت معارضين سوريين دربتهم وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية!، في تأكيد جديد أن لدى الطائرات الروسية قائمة أهداف تطابق ما لدى الطائرات السورية لا الأمريكية. وتأكيداً على "التمايز" الروسي عن أمريكا، أعلن ‏الكرملين بأن تمويل الضربات الجوية الروسية في سورية يتم من قبل موسكو فقط، وليس كمن يحصي الطلعات صبح مساء كي "ترتفع" الفاتورة... . داعش وأخواتها، الأدوات الأمضى في النموذج الأمريكي الأحدث من الحروب القذرة، ولا يمكن هزيمتها إلا بسحق هذه الأدوات، وإظهار العزم والإزدراء في الوقت عينه لمن يشغلها... لذلك تبلغت واشنطن عن الغارات الروسية بواسطة جنرالاً روسياً يعمل في مركز التنسيق لمكافحة الإرهاب الذي أنشأته موسكو مؤخراً في بغداد، ومنحه واشنطن إشعارا قبل ساعة من الضربات، وطالبها بوقف تحليق الطائرات الأميركية فوق سورية... بينما كان الوزير "المعلم" يستمتع بإذلال كيري: خليه ينطر... إنه الصراع الذي "سيحمل" العالم بأسره إلى نظام دولي جديد، والغد مثقل بالوقائع.