وأخيراً .....وصل الدب الروسي.. بقلم : فاتن ميشيل السهوي

وأخيراً .....وصل الدب الروسي.. بقلم : فاتن ميشيل السهوي

تحليل وآراء

السبت، ٣ أكتوبر ٢٠١٥

إن أكثر ما يميز السياسة الروسية على الصعيد الخارجي هو عدم تسرعها في اتخاذ القرارات ، وخاصة تلك التي تؤثر على المستقبل الجيوسياسي لأوراسيا وحزامها المحيط ، أو تلك التي يمكن أن تدخل روسيا في دوائر صراع تمس بمصالحها الاستراتيجية في العالم ، وهذا ما ينعكس دائماً في محاولات روسيا استنفاذ كل الفرص السياسية والدبلوماسية لحل الأزمات والمشاكل الدولية قبل اللجوء إلى المؤسسة العسكرية كأحد أدوات تنفيذ أهداف سياستها الخارجية .
لقد أكسبت تجربة الحرب الباردة العقل السياسي الروسي خبرة كبيرة في التعامل مع الأزمات الدولية ، وربما تكون أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، المثال الأبرز على قيام السوفييت بالتهديد بالخيار العسكري عندما اقترب الطوق الغربي من المجال الأوراسي ، مما اضطر الولايات المتحدة آنذاك إلى سحب الصواريخ متوسطة المدى من تركيا ، وإن استمرار الجيل الذي عاصر الحرب الباردة  في قيادة روسيا والذي يمثله الرئيس "بوتين"  ، أكسب السياسة الخارجية الروسية صفة "الاستمرارية " في تبني أدوات الحرب الباردة ذاتها عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي الروسي .
ويعد التدخل الروسي على المستوى العسكري في الأزمة السورية من أبرز الأمثلة على هذه الاستمرارية ، وهنا يمكن تحليل هذا التطور من خلال الوقوف على توقيت هذا التدخل وطبيعته وأهدافه ، حيث يعكس توقيت هذا التدخل القراءة الروسية لتطور الأحداث في سورية ، إذ جاء بعد ما يقارب أكثر من أربع سنوات على بداية الأزمة السورية ، وما يزيد عن العام على التدخل الغربي بحجة محاربة "داعش" في سورية والعراق ، هنا يمكن القول أن روسيا قد استطاعت أن تثبت صحة وجهة نظرها في أن أي عملية لمحاربة داعش تتجاوز التعاون مع الحكومة السورية هي عملية فاشلة ، فالضربات المحدودة لم تضعف "داعش" وإنما كانت في كثير من الأحيان تزودها بالذخيرة والسلاح ،  و وأن الهدف الأساسي للتدخل الغربي هو كسب الوقت والمراهنة على سقوط الحكومة السورية ، وأن ما يتم التصريح به0 حول ضرورة الحل السياسي في سورية إنما هو لعبة غربية لإبقاء الوضع السوري على حاله بما يضعف أكثر فأكثر القدرات السورية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وبالطبع ستكون "اسرائيل " المستفيد الأول من تفكك سورية وتقسيمها طائفياً .
أما طبيعة التدخل العسكري الروسي في سورية والذي وصفه الرئيس "بوتين " "بالإستباقي" ، فهو يذكرنا بالحروب الأمريكية "الإستباقية" في أفغانستان والعراق ، أي أن الرئيس "بوتين " أراد استخدام المفردات الأمريكية من موقع " الندية"  ، لإبراز روسيا كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة الأمريكية ، وأنها قادرة على خوض حروب "استباقية" لحماية أمنها القومي حتى خارج حدودها ، وهذا ما عبر عنه الرئيس "بوتين" عندما قال أن "داعش"  قد أعلنت روسيا دولة عدوّة ، وأن الكثير من عناصر تنظيم "داعش" هم من الروس،  وبالتالي فإنهم سيشكلون خطراً في حال عودتهم على الأمن الروسي .
أما أهداف هذا التدخل فهي تشمل ثلاثة مستويات رئيسية يمكن توضيح الأهداف الروسية من خلالها ، فعلى المستوى الدولي ، حاولت روسيا ومن خلال التركيز على شرعية الحكومة السورية ، وعلى أن المساعدة العسكرية لروسيا إنما جاءت بناءً على طلب من الحكومة السورية الشرعية ، إنما أرادت التأكيد على أهمية الإلتزام بالقانون الدولي ، واستغل الرئيس "بوتين " منبر الأمم المتحدة للتأكيد على أهمية العودة لمبادئ القانون الدولي وعدم تجاوزها ، وذلك في إشارة واضحة للتدخل الغربي العسكري بقيادة الولايات المتحدة سواءً في سورية أو العراق أو اليمن ، وأن ما يشهده العالم حالياً هو حالة من الفوضى ، يتم فيها اللجوء للقوة العسكرية دون أي اعتبار للقانون الدولي ولسيادة الدول .
أما المستوى الثاني فكان توجيه رسالة روسية للقوى الإقليمية المتورطة سلباً في الملف السوري ، مفادها أن روسيا ما زالت قادرة على حماية حلفائها ، وأنها لن تتخلى عن مصالحها الجيوسياسية في حدودها الأوراسية  بسهولة ، وأنها تقود حلفاً إقليمياً يشمل إيران والعراق وسورية لمحاربة تنظيم داعش ، وهو ما انعكس على  أجندات ومصالح مختلف الأطراف الإقليميين ، فقد أدركت تركيا  أن خطتها في إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري لن يكتب لها النجاح ، أمّا " اسرائيل " فقد أدركت مبكراً منذ توجه الطائرات الروسية إلى سورية ، أنَّ حدود تدخلها في سورية أصبحت ضيقة ، وأن مجال دعمها للإرهابيين في الجنوب السوري سيصطدم بالتواجد الروسي ، أما دول الخليج فقد أيقنت أن مصالح روسيا السياسية والاستراتيجية قد تتجاوز المكاسب الإقتصادية لروسيا  إذا ما استشعر الروس أن الخطر يتهدد نفوذهم في سورية بوابتهم الجنوبية إلى الشرق الأوسط والعالم العربي .
أما على المستوى الداخلي السوري فقد أربك التدخل العسكري الروسي حسابات المعارضة المسلحة ، والتي كانت تعوِّل على تقدم عسكري تحرزه على حساب الجيش العربي السوري ، وجاء توجيه الضربات الروسية لمواقع المعارضة المحسوبة على المعارضة "المعتدلة " ، ضربة موجعة للتنظيمات المسلحة التي صنفتها روسيا كتنظيمات إرهابية ، والتي تقع ضمن دائرة الأهداف الروسية  ، وهو ما قد يشكل ورقة ضغط روسية لدفع جميع القوى المتحاربة للقبول بالحل السياسي والعودة لطاولة المفاوضات ،  أما الجيش العربي السوري والذي دعا "بوتين" إلى دعمه في مواجهة إرهاب "داعش" ، فقد اكتسب زخماً مادياً ومعنوياً ستظهر نتائجه قريباً على الأرض بما يعزز موقف الحكومة السورية التفاوضي .
لقد حاولت روسيا الإستفادة من أخطاء التحالف الغربي في سورية والعراق ، وقامت بتنظيم عملياتها العسكرية داخل الأراضي السورية بما يجعلها تتفادى الأخطاء التي قام بها التحالف الغربي ، فعلى المستوى السياسي أعلنت روسيا أن تدخلها في سورية جاء بناء على طلب من القيادة السورية الشرعية ، أما على المستوى اللوجيستي فقد أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنها أبلغت الجانب الأميركي عن توقيت عملياتها ، وذلك لتجنب أي حوادث محتملة ، أما العمليات العسكرية فقد حرصت روسيا أن تبث صوراً لهذه العمليات ولتؤكد أن استهدافها يتجنب الأماكن المأهولة لتفادي وقوع ضحايا مدنيين .
لقد رسم التدخل العسكري الروسي فعلياً خارطة جديدة للتوازنات الدولية ، وأثبت أن روسيا قد استعادت موقعها كقوة عظمى على أرض الواقع  ، وأن قمة الهرم الدولي لم تعد محتكرة من قبل الأمريكيين ،الذين لا يحسدون على هذا الوضع الجديد ، وأن المنظرين السياسيين لن ينتظروا طويلاً ليعلنوا انتهاء فترة الأحادية القطبية ، وأن النظام الدولي قد استعاد توازنه بثنائيته القطبية ، وأن سورية هي مركز هذا التحول الاستراتيجي .
لقد أعلن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين " ومن على منبر الأمم المتحدة انتهاء "الزمن الأمريكي" ، وعلى الأرض السورية كان الصدى لهذا الإعلان ، لقد استغرق الدب الروسي وقتاً ليصل قمة الهرم الدولي ، لكن الأهم أنه قد وصل ، وعلى أميركا أن تستعد ، فالحرب الباردة قد تعود ، والكابوس الروسي سيعود ليؤرق أحلام الهيمنة الأمريكية من جديد ....