معنى التقدم ومعنى الحضارة.. بقلم: د.منار الشوربجي

معنى التقدم ومعنى الحضارة.. بقلم: د.منار الشوربجي

تحليل وآراء

الخميس، ٢٧ أغسطس ٢٠١٥

الصدفة وحدها ربما هي المسؤولة عن قراءتي هذا الأسبوع لموضوعين طرحا في ذهني أسئلة متعددة حول طبيعة عالمنا المعاصر، ومعنى الحضارة أصلاً.

التحقيق الذي نشرته النيويورك تايمز عن طبيعة العمل القاسية في مؤسسة أمازون الشهيرة أثار ضجة واسعة داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها، وكانت التعليقات من شتى أنحاء العالم، بما في ذلك موضوع نشرته النيويورك تايمز نفسها، بعد ذلك بأيام، تشير فيه إلى أن ما كشف عنه التحقيق من ظروف عمل لا يقتصر على مؤسسة أمازون وإنما هي أوضاع صارت منتشرة في عشرات المؤسسات العملاقة والبنوك الكبرى، وغيرها.

فالتحقيق المطول الذي نشرته النيويورك تايمز ونفت أمازون بعض ما جاء فيه، كان يتحدث باستفاضة عن أوضاع العمل داخل المؤسسة العملاقة.

صحيح أنه تحدث عن مرتبات مرتفعة ومزايا كبيرة للعاملين، إلا أنه عرض لظروف عمل شديدة القسوة لا تتوقف عند حد المنافسة الداخلية الشرسة بين العاملين وساعات العمل الطويلة التي تصل إلى نحو ست عشرة ساعة يومياً والعمل خلال العطلات وأحياناً بعد ساعات العمل الطويلة تلك، وإنما شملت أيضاً بعض الأمور التي يتم تشجيع العاملين عليها، منها الاتصال مباشرة بالإدارة لإظهار عيوب أداء الزملاء، وتشجيعهم على انتقاد بعضهم البعض انتقادات قاسية في الاجتماعات التي تعقد بشكل دوري لتقييم العمل، ما يضع الكل تحت ضغوط نفسية هائلة

. ومن بين ما جاء في تحقيق النيويورك تايمز، الذي اتضح أنه صار متعارفاً عليه في مؤسسات كبرى أخرى، هو وضع من يتعرض لظروف قاسية، كالمرض العضال، تحت الاختبار لفترة يمكن بعدها فصله.

وقد تكرر في التحقيق المنشور أكثر من مرة، على لسان عاملين سابقين، أن المؤسسة تستخدم ما أسموه «داروينية» في الإبقاء على العاملين بها أو طردهم. كما جاء فيه أيضا أن المحررين سمعا من كثير من العاملين السابقين أن مشهد البكاء من جانب العاملين في مواقع العمل بسبب حجم الضغوط يعتبر مشهداً عادياً فى مكاتب المؤسسة.

وفي اليوم التالي لقراءتي لذلك التحقيق، كنت في زيارة لصديقة عندما وقعت يدي في مكتبتها على كتاب صغير للغاية باللغة الإنجليزية يرجع تاريخ نشره لعام 1985. استأذنت صديقتي في استعارة الكتاب بعد أن قرأت أول صفحة ووجدته يتحدث عن بعض الإرشادات البسيطة المستمدة من الحضارة الصينية القديمة عن التعامل مع ضغوط الحياة.

الكتاب بسيط للغاية في لغته، ولكنه يقدم إرشادات بالصور عن الاسترخاء لعضلات الجسم وكيفية مواجهة ضغوط الحياة عن طريق التنفس العميق والابتسام. وهو يؤكد أن كل أعضاء جسم الإنسان تحتاج إلى رعايته بل ولابتسامته! بل لعل أغرب ما وجدته في الكتاب هو دعوته القارئ إلى أن يتخيل نفسه يبتسم لكل عضو من أعضاء جسده؛ كأن يركز مثلاً على الكلى أو الكبد أو القلب ثم يتخيل نفسه يبتسم لكل واحد منها على حدة!

تأملت فضولي الذي دفعني لاستعارة الكتاب الصغير، فأدركت أنه لم يكن فضولاً بقدر ما كان رد فعل لانشغال ذهني بذلك التحقيق الذي قرأته في النيويورك تايمز قبلها بيوم. فقد اكتشفت أن ما شغلني لم يكن تحقيق النيويورك تايمز عن أمازون تحديداً بقدر ما كان من تعليقات من حول العالم.

فمن التحقيق نفسه، ظلت في مخيلتي حكاية تلك السيدة التي قال لها رئيسها بعد أن أصيبت بالسرطان إنها «تواجه خطر الفصل» لأنها تواجه «صعاباً في حياتها الخاصة» تحول دون العمل.

وفكرت في ذلك التعريف الجديد لتعبير «الحياة الخاصة» الذي لم نعرف أبداً أنه يتضمن الإصابة بمرض عضال. وظل ذلك المعنى يشغل بالي، خصوصاً بعد أن قرأت تقارير ومقالات أخرى من حول العالم تؤكد أن تلك الممارسات التي رصدها التحقيق الأصلي صارت معتادة في مؤسسات عملاقة تعيش على المنافسة الشرسة مع مثيلاتها.

كل تلك الأمور تطرح علينا أسئلة كثيرة حول طبيعة عالمنا المعاصر وما يحققه للإنسان وما يسلبه منه. ويطرح أسئلة حول التوازن بين الأسرة والعمل المهني، وتطرح أسئلة أكثر صعوبة عن معنى الحضارة الإنسانية وعلاقتها بسعادة البشر أو ربما بفنائهم!