والفتنة ذات الجحود وشاهد ومشهود.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

والفتنة ذات الجحود وشاهد ومشهود.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٦ أغسطس ٢٠١٥

إن التواصل والتراحم الإنساني العالمي هما من قيم العقيدة القرآنية الإسلامية، ومن الخلقية النبوية السديدة الرشيدة الرحيمة للعالمين، وإن الخروج عن هذه العقيدة وعما بني عليها من التشريع الإسلامي المنطقي الواقعي الحكيم إنما هو انتقال إلى الجحود والفتنة، وإلى مصانع التشدد والأزمات مهما ارتدى دعاة الدين المفرغين من حقائق شهود التواصل ومن وظائف التراحم من طقوس شكلية ومظهرية شعائر تعظيمية لهذا الدين، فقد ظهر يقيناً جلياً مناداة القرآن إلى التعارف بين الأمم والشعوب، ليتحقق ظهور الشهودية على الناس كما جاء: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس..)، ولا معنى لفكرة أن نكون شهوداً من غير تجسيدها في أن نكون القدوة والأسوة الحسنة في علمنا وفي تعقلنا وفي أخلاقنا وفي تبادل معرفتنا وتعارفاتنا في كل المجالات الدنيوية  بحكمة وإغناء، فلم تشأ إذاً الأخلاق القرآنية في رسالتها الكاملة أن تغلق خرائط المجتمع الإنساني إغلاق الجزر المنفصلة بعضها عن بعض، ولم تشأ أن تختم نهاية العالم على ذهنية تقطيع أوصال الشعوب والأمم، لأن من بعض معاني مصطلح (التعارف) القرآني هو إنهاء عهود القطيعة بين الناس، ولاسيما تلك القطيعة الناجمة عن هواجس الخوف والجهالة وما يستتبعها من حروب وشقاق وعدوان، ولعلنا نستحضر في ذاكرتنا عن الإرشاد والهدي النبوي الحكيم في سيرته المشرقة وهو يفتح الأبواب المغلقة في أوجه المختلفين في طباعهم وأديانهم وآرائهم بمفاتيح آداب القرآن في احترامه لمجتمع التنوع والتعددية داخل الوحدة النفسية الإنسانية من خلال أهم مَعْلم خلقي يمثله مفتاح حسن الخلق بالآخر في زمن كانت تغلي به قلوب الجاهلية بنزعة الاتهامات الجاهزة والأحكام المسبقة التي كانت تختزل مساحة الكوكب بحدود مساحة القبلية أو الطائفة؛ فكان مفهوم حسن الظن بالآخر من أروع مفاهيم بناء الوحدة الوطنية والوحدة الإنسانية مع تأسيس حدود تحريم ظن السوء واجتناب الكثير من الظن، وبأن يعلم كل إنسان أن من المهلكات التي تؤذي أذى شديداً أي مجتمع أن يرى الإنسان فيه نفسه خيراً من إنسان آخر غروراً وتكبراً وظلماً واستئثاراً، وفلسفة تحريم ظن السوء هي أن ينطوي على إغواء من خبث النفس ومن سقم الفؤاد وانسداد العقل المعرفي في موضوعات تخص عقيدة الغيب..؛ فليس من حق أحد كائناً من كان أن يعمد إلى تفتيش القلوب؛ لأن أسرار القلوب لا ينبغي أن يطلع إليها أحد غير الله عز وجل علام الغيوب..، وفي ماضي الجاهليات الأولى- فضلاً عن الجاهلية المركبة الأشد هذه الأيام- نشبت حروب وسفكت دماء بسبب سوء الظن الذي ساهم في انتشار الإشاعات الكاذبة، وحسبنا أن نشير إلى آية قرآنية واحدة تحذر المجتمع الإنساني من مخاطر الأنباء الكاذبة في صريح قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، وهذا لما يتركه الخبر الكاذب أو خبر إشاعة السوء ولو كان واقعاً من أثر خطير لا على مصير الفرد الخاص وإنما على مصير المجتمع بأسره كما نلحظ في المقابلة بين كلمتي (فاسق) المفرد وكلمة (قوماً)، وهذا المرض الإفكي إنما هو مادة تغذية الطائفية والعصبية والقومية المتوترة، والفردية المتعالية المغرورة، وما يلحق بذلك كله من رعونات استطاعت في مجتمعاتنا العربية والإسلامية أن تبدد خطوط الوحدة والأخوية، وقيم التواصل والتراحم؛ فاستطاعت الفتنة في الداخل أولاً أن تنشب بأظفارها في نفوسنا وكراماتنا وفي جبهاتنا الداخلية حتى انكشفنا أمام أعدائنا والمتربصين بنا أولئك الذين أعدوا برامج الفتنة ومشاريع التقسيم لأوطاننا وبوابات الدخول إلى ثرواتنا وأعراضنا الدينية والسياسية و..، ثم على مدى فجائعنا اللامعقول لنا، صرنا نردد مع شاعرة بغداد نازك الملائكة: كلما أبصرتْ عيوني أزهاراً.. تذكرت قاطف الأزهار!!