الراوي الشعبي أقدم مُدرس للتاريخ!.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

الراوي الشعبي أقدم مُدرس للتاريخ!.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الاثنين، ٢٤ أغسطس ٢٠١٥

 في هذا المكان من هذه المجلة كان معنا بمناسبة سابقة أبو الفرج ابن العبري خلال كتابه الموسوم بتاريخ مختصر الدول. وفي هذا المكان من هذه المجلة كنا قد ألمحنا إلى صاحب فلسفة التاريخ (تويني) خلال كتابه "مختصر دراسة للتاريخ". وفي هذا المكان من هذه المجلة سنكون مع عاشق آخر للتاريخ ومتصوّف به ومدرس له على مدى عقود، وقد أمسى الآن مؤلفاً فيه هو الأستاذ زهير ناجي الذي قدم لنا صيف هذا العام 2015 كتاباً بعنوان (تعليم التاريخ عبر التاريخ) ليؤكد فيه أن ما من أميّ في العالم العربي إلا وتُشكل المرويات الأدبية التي كانت أصلاً شفوية جزءاً من ثقافته العامة وجزءاً – بالتالي- من تراثه الروحي سواء كان أمياً أو متعلماً، وهو إذا كان من ذوي التحصيل المنخفض فقد ينسى أبسط المعلومات التاريخية التي تلقاها من المدرسة بسهولة ويسر، ولكنه لا ينسى أبداً تفاصيل تغريبة بني هلال وسيرة عنترة بن شداد وملحمة (الزير) في حرب البسوس وسيرة الملك الظاهر ولا سيرة سيف بن ذي يزن بالرغم من قدم شخصيتها المحورية. هذه المرويات يتعلمها –حسب ناجي- بالتلقين الشفوي يلقيها على أسماعه الراوي الشعبي وتُغنّى مع الربابة وكثيراً ما تثير فيه الانفعالات الحادة وتؤثر في سلوكياته نفس التأثير الذي نرغب أن يُحدثه تدريس مادة التاريخ في مدارسنا.
 وفي كتابه (تعليم التاريخ عبر التاريخ) يشير المؤلف إلى ما بعد العام 2000 ق.م وما ترويه السجلات المكونة من ألواح الطين التي وصلتنا سالمة والتي كان الكهنة يحتفظون بها والتي وجدت في خرائب أور قصة لا بأس بدقتها عن قيام ملوك المدائن وتتويجهم وانتصاراتهم غير المنقطع وما أكثر ما غالى المؤرخون في هذا الوصف لأن تزوير التاريخ وتحيز المؤرخين من الأمور التي يرجع عهدها إلى أقدم الأزمان، وكثيراً ما كانت الكتابة التاريخية المنقوشة عن الملوك تصطنع لغة الشعراء. وهكذا كان المؤرخون السومريون يكتبون ماضيهم ويسجلون حاضرهم ليخلفوه لمن يجيء بعدهم. وقد وصلتنا أجزاء من هذه السجلات مقتبسة من تاريخ المؤرخين البابليين.
 لقد كان الكهنة والكتّاب الذين يكتبون هذه الكتابات يفعلون ذلك لغرض تعليمي... لقد كانوا يعلّمون الناس (أي الطبقة الحاكمة) العلوم ويلقنونهم الأساطير –أو التاريخ الأسطوري- وما من شك أنهم كانوا يتخذون من هذه الأساطير سبيلاً إلى تعليم الناس ما يريدونه هم وإلى حكمهم والسيطرة عليهم, وكانت تلحق بمعظمهم الهياكل مدارس يعلّم فيها الكهنة الأولاد والبنات الكتابة والحساب ويغرسون في نفوسهم مبادئ الوطنية والصلاح ويعدّون بعضهم للمهنة العليا مهنة الكتبة. ومن السهل أن ندرك ما كان لطبقة الكهنة من شأن وما بلغه عندها من الكثرة وإذا كانت أعمال هذه الطائفة متصلة بالمعابد اتصالاً وثيقاً، فقد كانوا يدرسون فيها ويعلمون وكانت فيها مدارس نظامية يعلم فيها الأولاد فن الكتابة.
 وكانت التربية العالية مقصورة على الكهنة والطبقات العليا، وكان التعليم عملياً بالدرجة الأولى هدفه تكوين كهان وكتّاب ومع ذلك سادت في فترة من الفترات الدراسات التي تدعى بالحرة، فوجد اختصاصيون في الأدب الديني والفلك والتنجيم والتاريخ. وكان برنامج الدراسة يشمل الدين والنحو والحساب والتاريخ والجغرافية. لقد خلف لنا البابليون والآشوريون قناطير من كتب التاريخ التي كتبت على ألواح الطين كان المؤرخون الرسميون يسجلون عليها تقى الملوك وفتوحاتهم وما يقع في كل مدينة من أحداث قديمة. هذا وقد تألف كتاب ناجي من ستة فصول تناول في الأول منها مادة التاريخ وتدريسها منذ فجر التاريخ وفي الثاني تعليم التاريخ في العصور الكلاسيكية وفي الثالث تدريس التاريخ في التربية الإسلامية والعربية، وفي الرابع تدريس التاريخ في ازدهار الديانة المسيحية وفي الخامس تدريس التاريخ في فرنسا وفي السادس آراء في بعض رجال التربية في تعليم التاريخ.