أردوغان و أوغلو و مأزق العمق الاستراتيجي

أردوغان و أوغلو و مأزق العمق الاستراتيجي

تحليل وآراء

الاثنين، ١٠ أغسطس ٢٠١٥

لم يكن منظر السياسة الخارجية التركية "أحمد داوود أوغلو"  ليتوقع أن نصائحه الاستراتيجية ،وأفكاره الجيوسياسية  لن تكون أكثر من مجرد حبر على ورق ، ولم يكن  ليعلم أن التنظير السياسي لا يشبه الواقع أبداً ، وأن زمن الامبراطوريات الذي يحن إليه قد ولَّى إلى غير رجعة، وأن السلاطين قد انتهى زمنهم ، ولا مكان لعروشهم في ميادين السياسة الحديثة .
هو العمق الاستراتيجي ذاته الذي تكلم عنه أوغلو مطولاً وأراده عمقاً يستند إلى الإرث الحضاري العثماني ، أراده عمقاً يعيد المجد البائد للأتراك ،وعمقا يثأر للهزائم التي لحقت بإمبراطورية أجداده ، حيث وجد في " أردوغان "الرجل المهووس بلقب السلطان ضالته ليطبق نظريته ، لكن التاريخ لم يطع سياسياً  كان يبدو محنكاً لولا أن كشفت الأزمة السورية مدى ابتعاده عن الواقع و قراءاته الخاطئة للمشهد الجيوسياسي وتحولاته في المنطقة ..
لقد كانت السياسة التي انتهجتها حكومة حزب العدالة والتنمية  والتي استندت بشكل رئيسي إلى أفكار "أوغلو " تتخذ منحاَ إيجابي ، من خلال تعزيز علاقات التعاون مع دول الجوار، و إعطاء سورية الأولوية في هذه العلاقات كونها بوابة تركيا إلى الشرق الأوسط ، وتطورت العلاقات السورية التركية بشكل لافت حتى شكلت نموذجاً يحتذى به في العلاقات بين دولتين جارتين ، فمن دولتين كانتا على شفير الحرب في فترات سابقة ، إلى جارتين أزيلت بين حدودهما حقول الألغام ومعها كل العراقيل السياسية والإقتصادية لتؤسس لمرحلة جديدة من التعاون بين البلدين ، وجاء طرح الرئيس بشار الأسد لمشروع ربط البحار الخمسة ليعزز هذه الشراكة وليجعل من سورية وتركيا منطقة القلب الأوراسي بما يخدم المصالح الجيوسياسية لكلا البلدين .
لكن هذا المناخ الوديّ لم يدم طويلاً بعد أن فرزت الأزمة السورية المواقف الدولية ، وانقسمت السياسات الخارجية للدول بين داعم ومعارض للحكومة السورية ، وفي هذا السياق شكلت الأزمة السورية متغيراً أساسياً كشف الحقيقة الإيديولوجية  لحزب العدالة والتنمية ، وتعززت هذه الرؤية من خلال الموقف التركي الداعم للإخوان المسلمين في مصر وسورية ، هذا الدعم الذي تجاوز المصالح التركية  التي كانت تستدعي منها هذه التطورات وحسب نظرية العمق الإستراتيجي، أن تبتعد عن الإنخراط في المشاكل الداخلية لدول الجوار والتي تشبه في مكوناتها الإثنية والعرقية المكونات التركية، وهو ما يهدد وحدة واستقرار المجتمع التركي الذي يعاني أصلاً من هشاشة في تركيبته  وخاصة فيما يتعلق بالمسألة الكردية .
لكن القرار السياسي التركي جاء بدعم الجماعات المسلحة التي غلب عليها الطابع الديني المتشدد ، كجبهة النصرة التي تعد فرعاً لتنظيم القاعدة الإرهابي ، و دعمت هذه الجماعات بشتى وسائل الدعم اللوجيستي والاستخباراتي والعسكري ، وفتحت الحدود أمام تدفق الإرهابيين من أوروبا والقوقاز والبلقان ، وشكلت الأراضي التركية قاعدة أساسية لتسهيل مرور المقاتلين الأجانب الذين انضموا تحت ألوية متطرفة ارتكبت في سورية أبشع الجرائم والمجازر بحق المدنيين السوريين ،تحت نظر ورعاية الحكومة التركية  التي ضحَّت بكل الإنجازات الإقتصادية والسياسية التي تم التوصل إليها سابقاً مع الجانب السوري في سبيل تحقيق حلم أوغلو – أردوغان في إحياء الإرث العثماني ،  كذلك الأمر كان الموقف التركي من التطورات المصرية التي أطاحت بنظام الإخوان المسلمين الذي دعمه وأيده أردوغان بقوة ، واستمر على موقفه المتعنت ليصل بالعلاقات التركية المصرية إلى حالة العداء والقطيعة وليخسر المكاسب الجيوسياسية التي كان قد حققها من انفتاحه على مصر بوابة تركيا إلى إفريقية ..
لقد اتسم نهج أردوغان السياسي بشخصنة الحكم ،و انفراده بعملية اتخاذ القرار السياسي دون الوقوف على المصالح الاستراتيجية التركية ، وجعل من أفكار حزبه  دستوراً بديلاً للدستور التركي ومبادئه العلمانية ، هذه المبادئ التي حاول أعضاء حزب العدالة والتنمية التشكيك بها وتصوير فترة  العمل بهذه المبادئ كفترة انحراف في البلاد ، وهو ما ترك أثره على الشارع التركي الذي فقد الثقة بمصداقية حزب العدالة والتنمية  وتوجهاته ، ليجعل من الإنتخابات البرلمانية الأخيرة متغيراً هاماً في مسيرة حزب أردوغان ، ولينهي بنتائج هذه الإنتخابات  حقبة حكومات حزب العدالة والتنمية وليعيد تركيا إلى عهد الحكومات الإئتلافية .
لقد دفعت النجاحات المتتالية لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات السابقة، والترحيب الذي لقيه الدعم التركي للإخوان المسلمين في مصر ، والتقارب التركي القطري فيما يتعلق بالأزمة السورية إلى حالة من الغرور السياسي عند أردوغان وموجهه أوغلو ، حتى اعتقد أنه "السلطان العثماني " الجديد ، وأخذ يبني سياسته الخارجية بناءً على هذا الأساس كخليفة للمسلمين  ، وجاء القرار التركي ببناء مسجد في كوبا ليعزز هذه الرؤية  الجديدة للدورالتركي في العالم كامتداد للامبراطورية العثمانية ، ونصب أردوغان نفسه خليفة للمسلمين في العالم ، متجاهلاً الإرث الثقيل من القهر والإضطهاد الذي عانته الدول العربية إبان الحكم العثماني ، وهو ما جعل تركيا تخسر الكثير من مؤيديها في الشرق الاوسط ، وهو ما أكده العديد من الأكاديميين الأتراك ومنهم " يوكسيل تاسكن " الأستاذ المساعد بجامعة مرمرة ، والذي يرى أن تركيا لم تعد محبوبة في الشرق الأوسط  بسبب الأخطاء التي ارتكبتها بعد ما شهدته المنطقة العربية من تطورات ، والمواقف التي اتخذتها حكومة حزب العدالة والتنمية .
إلا أن الموقف من الأزمة السورية كان الأكثر تهوراً ، والذي كانت له ارتداداته السلبية على مختلف  الدوائر الجيوسياسية  المرتبطة بالعمق التركي ، فالدعم التركي اللامحدود للجماعات المسلحة وتهاونها في عبور المقاتلين الأجانب لحدودها ، وعدم اتخاذ أية مواقف حازمة تجاه  السلوك الوحشي لهذه التنظيمات وعلى رأسها داعش ، جعل السلوك السياسي التركي محط شبهة لدى العديد من الدول وعلى رأسها الدول الأوربية التي وصل إليها الإرهاب الداعشي ، وهو ما يبعد أكثر الحلم التركي في الإنضمام للإتحاد الأوروبي ، كما أن الإصرار التركي على التمسك بالإرث العثماني جعل العلاقات التركية - الأرمنية تعود إلى حالة التأزم السابقة بعد أن شهدت انفراجاً كان يمكن لسياسة تركية أكثر عقلانية أن تستغله لفتح صفحة جديدة في العلاقات التركية - الأرمنية ، وفتح المجال القوقازي أمام المصالح التركية بما يخدم استراتيجية الطاقة التركية كلاعب رئيسي وجسر لنقل الطاقة إلى أوروبا ، إلا أن الإصرار التركي على التهرب من المسؤولية التاريخية عن المجازر بحق الأرمن والتي صادف هذا العام الذكرى المئوية لها ، جعل تركيا في موقف أخلاقي وتاريخي محرج  أثر بشكل كبير على الرأي العام العالمي تجاه تركيا وتاريخها الذي يحاول أردوغان ومعلمه أوغلو التمسك به والتغني بإنجازاته .
 لقد فضَّلت الحكومة التركية  التعاون مع التنظيمات الإرهابية في سورية في سبيل تحقيق هدف أردوغان الشخصي في التخلص من النظام السوري ، والذي وجد فيه منافساً قوياً  يمكن أن يقود سورية لاحتلال مكانة تنافس المكانة الجيوسياسية التركية في منطقة الشرق الأوسط سياسياً واقتصادياً ، بعد التطور الذي شهده الإقتصاد السوري في الفترة التي سبقت الأزمة السورية ، إضافة إلى المكانة  التي  احتلها شخص الرئيس الأسد كنموذج للقائد الشاب المثقف والذي يمتلك رؤية استراتيجية متقدمة  يمكن أن تقود بسورية إلى قوة إقليمية منافسة لتركيا اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، لكن هذا الحلم الأردوغاني كان دائماً يصطدم بصمود الشعب السوري وجيشه الذي أحبط كل المحاولات التركية في إسقاط  الحكومة السورية الشرعية ، وكانت السياسة التركية تجاه الأوضاع في سورية ترمي إلى استهداف الأكراد في سورية من خلال داعش ، لكن التقدم الذي حققه الأكراد على حساب داعش  فاجأ الحكومة التركية التي استغلت التفجير الذي حدث في بلدة سروج التركية والذي ذهب ضحيته 32 شخصاً ، لتعلن حربها ضد داعش في صفقة مشبوهة مع الولايات المتحدة الأمريكية،  في محاولة تركية لاستهداف التقدم الكردي من خلال سلاح الجو بحجة ضرب داعش ، وهو ما قوض الإتفاق الكردي مع الحكومة التركية ، ليضيف معضلة داخلية كبرى إلى جملة المشاكل الداخلية والخارجية التي انزلقت إليها سياسة أردوغان الحالم ومعلمه الفاشل أوغلو والذي يحاول من خلال إعلان حربه الوهمية على داعش  تصوير نفسه كقائد قوي قادر على حماية تركيا من الإرهاب ، إلا أن التطورات تكشف يوماُ بعد يوم أن أوغلو صاحب نظرية العمق الإستراتيجي  يدفع بتلميذه الحالم أردوغان  ليغرق عميقاَ في استراتيجياتٍ فاشلة لن تنقذها أحلام السلطان المهزوم .
  فاتن ميشيل السهوي