دول الخليج، بين تقزيم الدور وتقسيم الجغرافيا

دول الخليج، بين تقزيم الدور وتقسيم الجغرافيا

تحليل وآراء

الأربعاء، ٨ يوليو ٢٠١٥

 قد يسأل أحد عن سر العداء الكبير الذي يكنه بنو سعود للجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ ثورة الإمام الخميني عام 1979 إلى اليوم، ولماذا استفحل هذا العداء مع بداية الحريق العربي وقطع كل جسور التواصل الدبلوماسي والحواري معها.

قبل الثورة الإسلامية، كان السجاد الأحمر يفرش لشاه إيران من الطائرة إلى قلب القصور، وكان قلب الأمراء ينبض فرحًا عند زيارة الشاه ويزيد سعادة بعد تقبيل أياديه والتقبيل على أعلى الكتف. يومها، كان النظام الشاهنشاهي الملكي يشبه كثيرًا نظيره في المقلب الآخر لخليج فارس، وكانت وحدة التحالف مع راعي البقر الأمريكي أشبه بسباق كلبي صيد لالتقاط الطريدة وإرضاء الصياد. إلا أنّ سقوط الشاه وتغيّر نظام الحكم في إيران من ملكي إلى جمهوري إسلامي، أثار حفيظة النظام الملكي السعودي وبدأ يتوجس من هذا التغيّر الكبير على الضفة الأخرى لما له من انعكاس على نظام آل سعود مستقبلاً بحسب اعتقاد بنو سعود. ولهذا، بدأ التآمر على أيران من خلال استخدام صدام حسين ودعمه ماليًا وعسكريًا ليخوض حرب إسقاط هذا النظام الجمهوري. فكانت حرب الخليج الأولى أي الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت زهاء الثمان سنوات وسقط ضحيتها أكثر من مليون وسبعمائة ألف ضحية من الطرفين، وكان لبندر بن سلطان ولسعود الفيصل الدور الأكبر تخطيطًا وتمويلاً وتحريضًا، وقد صرفت المملكة أكثر من 400 مليار دولار في تلك الحرب لإنهاء ثورة الخميني كما يذكر كتاب "الأمير ريتشارد سمبسون"، والذي يحكي عن حياة الأمير بندر ودوره في مشاكل المنطقة من باكستان ضياء الحق إلى جزائر الثمانينيات وأحداثها الدامية.

إلا أنّ استفحال العداء كما أشرنا آنفًا مع بداية الحريق العربي، يطرح السؤال الكبير حول سبب هذا القرار بالمواجهة المفتوحة مع إيران وأبعاده، فهل السبب يكمن في مواقف إيران من سقوط مبارك وبن علي وتأييد الأخيرة "للثورات" التي بدأت شعبية وتم خطفها؟ وهل كان اعتبار بعض الحركات الإسلامية الثائرة بمثابة صحوات إسلامية قد شكل تحدٍّ ومواجهة استفزازية للوهابية عبر دعم فصيل سياسي سني معادٍ لفصيل آخر هو الوهابية كما قلنا؟ الأرجح اعتقادًا، بأنّ حجم هذه المسألة لا يتخطى حدود الاختلاف والخلاف مع إيران ولا يرقى لمستوى المواجهة المفتوحة، سيما وأنّ السعودي كما هو مفترض، يأمن جانب الحكم واستمرار الحكم في السعودية بموجب الاتفاق التاريخي بين عبد العزيز وايزنهاور. فالحلف الاستراتيجي المفروض بين واشنطن والرياض، والمبني على ضمان مصالح الأمريكيين في الخليج والمنطقة مقابل ضمان الأمن القومي السعودي يشكل صمام أمان بوجه أية محاولة لقلب موازين القوى الإقليمية، فما الذي تغيّر؟

لا شكّ أنّ الموضوع تخطى حدود السعودية وحتى الشرق الأوسط، فالأمريكيين يطلبون ود الإيرانيين من أجل السعي وراء تفاهم حول مستقبل الجغرافيا الاقتصادية الممتدة من الصين شرقًا إلى بندر عباس غربًا وروسيا الصاعدة شمالاً، حيث سيشكل هذا الامتداد الجيو-اقتصادي حجمًا أكبر بمئات الأضعاف من حجم المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط بأكمله، خصوصًا في ظل السعي الدؤوب لدول البريكس لتشكيل فضاء اقتصادي مستقل بمعزل عن الهيمنة الأمريكية. وهذا ما جعل إيران تشكل حلقة الربط الأساسية لطريق الحرير الممتد من الصين إلى شواطئ خليج فارس، ولا شكّ أنّ جُلّ التنازل الأمريكي بملف إيران النووي مرتبط بشكل أساسي بمستقبل الجغرافيا الاقتصادية المستقبلية لدول البريكس وحصة ومكانة واشنطن فيها.

لهذا، فإنّ المملكة العربية السعودية بدأت تستشعر أبعاد هذه الخريطة المستجدة التي ستقزم دورها كلاعب دولي مهم استطاع أن يرسم السياسات الدولية بقوة النفط الأسود في الحقبات الماضية، وهو الآن عاجز عن رفع دولار واحد لبرميل النفط في ظل كساد المعروض وتفوق الغاز والنفط الصخري في كسب السوق وتنوع مصادر الطاقة.

السعودية التي بدأت تفقد يومًا بعد يوم عناصر قوتها الاقتصادية، لجأت مع الحريق العربي إلى استعمال باقي "أوراق القوى" التي تملكها، والمتمثلة بتحكمها بأكبر جيش إرهابي في العالم كما وصفه بندر بن سلطان خلال زيارته الابتزازية الأخيرة لبوتين، وقدرتهم على إشعال أي بقعة جغرافية من أجل فرض هيمنتهم الإقليمية ولو كلف ذلك ترليونات الدولارات النفطية.

للأسف، نسي بنو سعود أنّ طابخ السم في نهاية الأمر، آكله، حتى أصبحت المملكة محاطة اليوم بغلاف من الأخطار والمشاكل، وتغلي داخليًا على بركان سينفجر في أية لحظة. فحدودها مع اليمن مشتعلة، وداعش يجاورها على امتداد الحدود مع العراق والبحرين والشرقية ببارود ينتظر الاشتعال، حتى حدودها الجنوبية مع عمان ليست آمنة في ظل تمايز الموقف العماني عن باقي دول مجلس التعاون الخليجي فيما يتعلق بمقاربة العلاقة مع إيران وباقي ملفات الخليج كاليمن وغيرها.

إنّ عزل بندر وفيصل هو قرار أمريكي يشكل نقلة نوعية في سياسة الولايات المتحدة في السعودية، وهو رسالة واضحة لبنو سعود بضرورة تغيير مفهوم الحكم السعودي، وما رسالة التفجيرات الداعشية في قلب المملكة إلا بمثابة أخطار واضحة بجهوزية داعش في قلب المملكة وقدرتها على التحرك. لكن السعوديين ما زالوا يكابرون، لا بل يتجاهلون أو يجهلون أنّ إيران وإن كانت خصمًا لهم، فهي تحارب الإرهاب الداعشي الذي يتهددهم تمامًا كما يتهدد إيران بل أكثر، فالبيئة الداعشية الحاضنة في المملكة ليست موجودة في إيران.

إنّ اعتقاد آل سعود أنّ تدخلهم الإرهابي في العراق وسوريا واليمن والبحرين سيعطيهم مناعة ضد التغيير القادم، ويفرض على الآخرين أن يحسبوا حساب الرياض في لعبة التوازنات الجديدة القادمة، لكن الحقيقة غير ذلك، فالشرق الأوسط هو تفصيل بسيط أمام ما يحضّر للشرق الأدنى من خرائط جديدة لن يكون للسعودية أي دور أو وجود عليها. ولذلك، فإنّ المملكة وبعض دول الخليج ستشهد تقزيمًا في دورها بعد الانتهاء من استثمار الحريق العربي، وانتهاء الدور الوظيفي لداعش في تخريب المنطقة ونهب أموال شعوبها بالسلاح والفوضى، وستدفع مليارات البترودولار ثمنًا لهذه الفوضى العارمة. وإذا ما تمكن محور الممانعة في الصمود ومنع تقسيم سوريا والعراق بإرادة الثبات والمواجهة، فإنّ أصحاب المشروع التقسيمي وعلى رأسهم الكيان الصهيوني سيذهب إلى جوائز الترضية كي لا يخرج خالي الوفاض من هذه المعركة، وذلك بالسعي لتفتيت دول الخليج، الحلقات الأضعف وتحويلها إلى "قطريات صغيرة" أو "كويتات" منقسمة.

فهل تعي السعودية حجم المأزق الذي وضعت نفسها به، أم ستظل رهينة المكابرة من جهة والارتهان للرغبات الصهيونية من جهة أخرى، ليكن سعيها ذنبٌ عليها، وتندم؟