مشكلات الفقر.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

مشكلات الفقر.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الاثنين، ٦ يوليو ٢٠١٥

في الفقر حكمة شاء الله تعالى أن تتوالد من قضاياها حوافز وهمم، ونشاطات واجتهادات؛ كما أنها استغلت في تطرّفات اقتصادية وبشرية على جميع المستويات الخاصة والعامة، وقد حظي موضوع الفقر في النصوص الإسلامية بمساحات مهمة وواسعة جعلته من حيث الواقع مشكلة عارضة تذوب تحت نظر المؤمنين الشاكرين بل هو في فهم المخلصين تصديق لأخلاق الشكر والتضحية والزهد، بأن ليس هناك أعظم في منظور الإصلاح الإنساني الذي يحظى برضى الله تعالى مثل الإنفاق وأنواع العطاءات، وعلى رأسها الزكاة، ثم بقية مواضيع الصدقات وفق نظام منهجي يحث عن تعقل ووسطية وتقديرات مرسومة على البذل وفق الاستطاعات كلها المادية والمعنوية حتى آخر رتبة من ذلك في الكلمة الطيبة والابتسامة نحو الآخرين، ولعل من اللافت في  الوعي البحثي وفي التأمل المتدبر في نصوص القرآن الكريم خاصة أن جميع النصوص الواردة في شؤون الزكاة والصدقات والكفارات وأنواع الإنفاقات لا يوجد فيها ولا نص واحد يتوجه إلى الفقير، بأن يطلب الصدقة أو مثلها استجداء وطمعاً في مال الأغنياء والموسرين، بل كل تلك النصوص تطلب من الموسرين والأثرياء المسارعة إلى إخراج الزكاة وأنواع الإنفاقات، وأن يجعلوها في مصارفها لدى الفقراء والمحتاجين والمضطرين وفي برامج الإصلاح الخيري علماً وإصلاحاً وإغاثة للهفان، وفي هذا أيضاً قضية مهمة من قضايا الترابط الاجتماعي ومن إحكام الوجود الإسلامي في المتماسك في كل زواياه الدنيوية، وفي تعزيز مناعته ضد الفقر الكافر وضد أي خلل أو جريمة أو انحلال في الاقتصاد والمعيشة وفي قوة الهيبة للأمة ألا وهو الدعوة إلى إحكام أداء الواجبات فردياً وجمعياً عن نظام واعتدال واهتمام من غير أن يفسح المجال لرعونات المطالبة بالحقوق كما في القرآن: (والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم)، فإن قيام كل غني وقادر ومستطيع بما وجب عليه إنما يحقق للمجتمعات وللأمة التوازن ويحفظ الهدوء في حسن أخلاق وفي تعزيز محمود للأخوة والمحبة بين المؤمنين، ويمنع من أي ثورة أو طفرة أو شذوذ أو خلل في الأمانة والدين والدنيا..، هذه هي الحقيقة، ولكن ما بال هذه الفضائل والمكرمات قد اطمأنت في عملها في دول أوروبية تحققت فيها ألوان رائعة من الكفاية الاجتماعية لكل فرد فيها بالرغم من أنها لا ترتبط بما استقر لدينا نحن العرب والمسلمين من نصوص في وظائف تلك الكفاية، ولكنها انفصلت عن أهلها؟ وإن الأمثلة في دول الغرب عن ألوان من الرعاية الاجتماعية لأي إنسان وفي رعاية الأطفال ولو كانوا معاقين لا حرج في ضمهم إلى أي أسرة أو أن يخصص المستطيع منهم عشرة بالمئة من ثروته للمحرومين، فلا نجد عندئذ من يتسول أو يعتدي انتقاماً من الفقر..! أما بلاد العروبة والإسلام فما هكذا كان العهد بها، وخصوصاً ما يحل فيها من أقصاها إلى أقصاها؛ فأغنى أغنياء العالم موجودون فيها وأخطر فقراء العالم وأكثرهم عدداً هم من أبنائها، وأشد المصائب والفتن والجرائم وأنواع التفرق والبغضاء تحتضن بين دولها وأبنائها مع أننا لو تصفحنا أكثر البلاد الإسلامية وخاصة العربية منها لوجدنا أن الله تعالى قد أعطاها من الكنوز والمناخ والثروات المعدنية والموقع الجغرافي والطبيعة والأنهار والبحار و.. ما لم يعطه أحداً من العالمين، ففي الوطن العربي مثلاً نجد أن مساحة اليابسة فقط (1.354) بليون هكتار بينما المساحة المغمورة بالمياه منه تساوي (16) مليون هكتار تقريباً، ومساحة الأراضي الزراعية وحدها تساوي (57) مليون هكتار، ومساحة المراعي (305) ملايين هكتار، ومساحة الغابات فيه (91) مليون هكتار،  وإن بلداً واحداً كالسودان مثلاً قادر على أن يكون سلة غذاء للعالم أجمع، وهذا كله بحق مع غيرها من دول أخرى إسلامية لو استغلت ولو رافقتها مشاعر الإنسانية والأخلاق في العمل والإنتاج والاجتهاد والاستثمار والتوزيع عن علم ووعي كامل، لكان المسلمون أغنى بلاد العالم، ولكانت مصائر القوى المالية والاقتصادية والعلمية في العالم كله يأتيها القرار منه!.. فما المشهد اليوم؟ لا يختلف أدنى باحث مطلع على أن المسلمين هم اليوم  أفقر دول العالم، وقد صنفت هيئة الأمم المتحدة 1971 م دول العالم إلى ثلاث فئات – بغض النظر عن الدوافع- دول متقدمة؛ دول نامية فقيرة؛ دول معدمة؛ وأن الدول المتقدمة في العالم هي 37 دولة فقط لاحظّ للدول العربية والإسلامية فيها، بل إن حظ هذه الدول هو في النامية الفقيرة والمعدمة- أكثر فقراً وتخلفاً- وهي من مكونات هذه الدول البالغ عددها 89 دولة؛ فهل المصيبة في البحث عن المشكلة؟ أم المشكلة في تزايد المصائب القائمة والمصدرة لهذه الدول؟! وهل المشكلة في جفاف الموارد الإنتاجية والغنية أم المشكلة في قحط الموارد الأخلاقية والأخوية وفي خيانة الأمانة وفي الثقة بالعدو لا بالصديق، وفي تخوين الأمين وفي الأمان للخائن، و(إذا وسِّد الأمر لغير أهله فانتظروا الساعة)، وكما جاء في حديث آخر (لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق).. إننا نعلم ونملك في مكتباتنا وثقافاتنا أعظم نصوص الحق والربانية والهداية والأخوة والتراحم، ولكننا صرنا أزهد الناس بها وأقسى عقوقاً لبرها وعزتها.. قد وثقنا بالغريب، ولبسنا غير كرامتنا فشأننا في احتوائنا على مكونات (خير أمة أخرجت للناس) لا يصح فيه إلا ما قد قيل في القرآن الكريم للمحرومين من المعرفة والتوفيق، ومن رؤية أنوار الهداية والمستقبل: (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون).