ثقافة اللغو والتسكّع.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

ثقافة اللغو والتسكّع.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢ يونيو ٢٠١٥

ليس من نافلة القول، بل من حكمه وإحكامه أن أي أمة تدل على جاهها وعظمتها ومناعتها من اعتدادها بكل نافع وقيم وثمين في حياتها الكلامية والفعلية؛ فإذا كثر فيها اللغو والهزل وتسفيه النعم فقد صنعت لنفسها سُبل الاهتراء وهشاشة البقاء، وهي وإن حاولت أن تلملم ذيول الفشل وتزعم أنها تلحق بركب الأقوياء فإنها ستصنع زبداً وستشطح في التزيّن وفي (التمكيج) تعويضاً عما عجزت عنه بعقلها وبسواعدها، بل ستبقى تهدر من قدراتها وطاقاتها حتى تضعف مناعتها، ومن ثم تتطفل عليها فطريات الحضارة، وستطمع بمأكلها الجهات المتربصة بها التي تنتظر فرصة الانقضاض في الحال والوقت المناسب، تلك هي الآفة الأعظم- اللغو في الأقوال والأفعال- إن هي تحكّمت في دولة أو جهة ما، فهذا يعني نمواً متطرفاً لأخلاق الكراهية وما ينبت عنها من أحقاد وحسد ونفاقيات وجدل كما دل على ذلك الحديث الشريف: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)، وهذا كله يفسر لنا انتشار سخائم العداوة والبغضاء التي عششت في أكثر نفوسنا ولم تسلم منها نفوس معروفة في قطاعات تربوية ودينية واجتماعية وغيرها مما تكشفه مدارك القارئ المحترم!..، وهذه كلها كما بيّن القرآن الكريم بوضوح صفات لا تليق إلا بالمنافقين صانعي النكبات في هذه الأمة من تاريخها المبدئي حتى هذه الأيام التي اختنقت من كثرتهم؛ يمكن كشف أهم شاراتهم وملامحهم مما جاء في الآية: (ولو نشاء لأريناكم فلعرفتهم بسيماهم، ولتعرفنهم في لحن القول، والله يعلم أعمالكم) سورة محمد الآية 30.
إن اللغو في الأقوال والأعمال والمظاهر هو دلالات ضعف ونخر في جسم أصحابه مهما تسلحوا بالألقاب الفخام أو تقنعوا بارتزاق زيوف الشهادات؛ فهم قد هانَ عليهم القول وربما تصنع الغيرة الوطنية والحرقة على المصلحة العامة وعلى الناس بل تصنع الخشوع والبكاء على منابر الأداء أو الخطاب حتى إذا ما خلوا بأنفسهم رجعوا إلى طبيعتهم في اللهو والعبث والغيبة والمكر مع أنهم أمام الآخرين قد شهقوا بنوادر البلاغة والأمثال وتمثل الاجتهاد والمجاهدات- هذا إن أحسنوا-، وهم لم يردعهم أو يروعهم قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كَبُر مقتاً أن تقولوا ما لا تفعلون)؛ إن عظماء الحياة في هذه الأمة وفي التاريخ كله قد كان من أهم الملحوظات عليهم أنهم أصحاب قوة في الأفعال وقلة في الأقوال؛ فإن قليل القول مع البلاغة وغنى الأفكار هو عنوان اجتهاد وهمم وهموم وصدق في أهلها، والأمثلة في ذلك كثيرة؛ فقد سمعت مرة من أستاذنا وشيخنا وأستاذ شيوخي الشيخ محمد صالح الفرفور أن بعضاً من كبار القوم قد زاروا المحدث السيد محمد بد الدين الحسني حوالي عام 1925 م وكان منهم الأستاذ محمد كرد علي وقد عرضوا عليه فكرة إنشاء مجمعات وملتقيات وشرحوا له ذلك مطولاً، وكان الشيخ بدر الدين يصغي ولا يتكلم وهو مطرق الرأس حتى انتهوا من حديثهم ثم رفع رأسه وقال لهم بلهجته المعروفة: (يابا هاتوا طالب علم!..) يعني ما تنفع الهياكل وقمم البناء والمشاريع إذا لم نصنع ونبني أولاً الأكفاء من المجتهدين وأهل العلم وعظماء التربية؛ فإن كبار القوم في عقولهم وعلومهم وأفعالهم وفي ثمرات عطاءاتهم هي التي تأتي بالمشاريع وهي التي تحفظ أمانات الأمة والأجيال وليست العناوين الفخام، وأولوية إعداد الإنسان تربية وتعليماً وفكراً وإصلاحاً وإحكاماً في فهمه للمسؤولية بحسب مدار موقعه وأمانته تأتي قبل البنيان، ولقد قيل مرة للفيلسوف الشهير (سقراط): إن فلاناً بارع في مخيلاته وإبداعاته وفي نظراته الإصلاحية، وقد كان سقراط ساكتاً، والمذكور أمامه وهم يتحدثون عنهم؛ فقال لهم بعد حديثهم: دعوه يتكلم!!، ليحكم عليه من تكلمه الذي يدل على قيمته، ولعل أعظم قوامية لبناء الأمة الخيرية الحضارية المعصومة المهيبة تجمعها الإعجازية البليغة في قول الله تعالى عن المربي وعن أبناء التربية الحكماء وعن منهج الإعداد والحكمة والتربية فيما جاء: (كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعملكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)، وهذه رسالة ربانية إلينا لا لنحملها ولنمجد في الثناء عليها بل لنحققها فهماً وعلماً ومسؤولية ورعاية؛ وما تنفع أعظم رسالة إذا حُملت على ظهور غير العظماء؟
وهذا هو اللغو وهو التسكع في التمدح به ليأتي الواقع المجروح المتألم وهو يردد من غير جدوى: (وقل اعملوا)، ولم أرَ أمثال الرجال تفاوتوا لدى الحصر حتى عد ألف بواحد!
_ يتبع _