النظريَّة السّاميّة أسطورة توراتية (2).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

النظريَّة السّاميّة أسطورة توراتية (2).. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الخميس، ٢٨ مايو ٢٠١٥

عالم الآثار العربي السوري د. توفيق سليمان يعرّف المستشرق بقوله: "هو الباحث الأجنبي (الأوروبي والأميركي والأسترالي مثلاً) المختص بدراسة لغات وحضارات شعوب المنطقة العربية في غرب آسيا وشمال إفريقية والبحث في تاريخها وفي تاريخ شعوب المناطق المجاورة لها وفي حضارتها".
ثم يصنف المستشرقين في فئتين: فئة قليلة العدد رائدها البحث الجاد في إبراز وقائع الأمور وبيان قيمها المعرفية؛ وفئة كثيرة العدد لأصحابها هوى وأهداف تنطلق غالباً من منطلقات دينية بأبعاد توراتية! ورأى أن بعض علماء تلك الفئة القليلة بحثوا بحثاً نقدياً جاداً في هذه الحضارات، وأن آخرين منهم ساهموا في الكشف عن آثار وحضارات ولغات شعوب قديمة في المنطقة العربية، وهي آثار لم نكن لنعرفها بالدقة التي نحن فيها الآن؟ ثم لولا جهودهم في هذا المجال لاستحال علينا إعادة النظر في دراسات الاستشراقيين بعامة وفي البحث في آثار شعوب منطقتنا وكتاباتها القديمة.
ثم يخبرنا د. سليمان أنه خلال المراحل الأخيرة من دراسته في ألمانيا بداية ستينيات القرن العشرين أخذ – كغيره من الطلاب العرب- بـ"النظرية السامية" لغة وحضارة وتاريخاً وآثاراً، ولكن ذلك كان قبل أن يتعمق في دراسة آثار ما قبل التاريخ التي ألقت ضوءاً جديداً على مستوطنات الإنسان الحجري، وعلى انتشاره في معظم أنحاء الكرة الأرضية والمنطقة العربية منها خاصة، وكان ذلك أيضاً قبل أن يدرس توفيق سليمان تاريخ اهتمام الباحثين- في أوروبا- باللغات الشرقية، وهو تاريخ ولادة "النظرية السامية" التي طورت حتى غدت إلى ما هي عليه الآن في البحوث والدراسات العلمية والسياسية سواء بسواء.
لقد أثرت أصول هذه النظرية التوراتية- كما يراها سليمان- في كتابة المؤرخين المسلمين التاريخ العربي قبل فجر الإسلام وبعده، وانطلق كثيرون منّا خلال هذه النظرية إلى القول: إن العرب كانوا قبل الإسلام بدواً رُحلاً ليس إلا، عاشوا متنقلين في البوادي وأطراف الصحارى، لم يعرفوا إلا القبلية المتخلفة نظاماً لهم، ولم يجعلوا إلا السيف حكماً في تصفية خلافاتهم حول "الماء والكلأ وشرف القبيلة"، وأنهم انطلقوا بدافع الفقر والجوع – كموجة سامية- من شبه الجزيرة العربية بدْواً مسلمين، فاحتلوا مناطق بلاد الشام والعراق واليمن الخصيبة بقوة السلاح، واستناداً إلى هذه النظرية- حسب سليمان- مازلنا نقول أيضاً: إن القبائل والشعوب الأخرى المتحضرة في بلاد الرافدين وبلاد الشام كانت "قبائل وشعوب غريبة عن هؤلاء البدو (العرب الغزاة) الذين احتلوا أيضاً مصر وليبيا والمغرب بالحرب".
ولأنهم وفقاً للنظرية السامية ونظرية الأصل المشترك الواحد ساميون فإنهم ينتمون إذاً إلى جنس غير جنس شعوب شمال إفريقية الحامي؛ أي إنهم صاروا دخلاء على هذه الشعوب بعد فجر الدعوة الإسلامية، وبأسف إن هذا التصور لم يزل مخيماً حتى الآن على أفكار كثير من كتاب تاريخنا العربي، وقد شكل تربة خصيبة لظهور تاريخ العرب قبل فجر الإسلام تاريخاً ناقصاً ومشوهاً لأننا- حسب د. توفيق سليمان- فهمناه تاريخ قبائل "بدو رحل" ومعه أحياناً تاريخ بعض القبائل التي استوطنت أماكن محددة من أطراف البقاع الخصيبة في بلاد الشام وبلاد الرافدين قبل ظهور الإسلام ببضعة قرون.
ويرى سليمان أن المدرسة المعتمدة في كتابة التاريخ العربي قبل فجر الإسلام وبعده، على الرغم من أن مؤلفات بعض أصحابها تتصف بالشمول، إلا أنها تفتقر إلى المنهج النقدي في دراسة الأحداث والروايات التاريخية وتحليلها من جهة، كما ينقصها من جهة أخرى اعتماد أصحابها المكتشفات الأثرية في سائر أنحاء الوطن العربي ودراستها دراسة زمنية مقارنة وتقويمها تقويماً سليماً بعيداً عن الأهواء الشخصية والنزعات المذهبية والسياسية الإقليمية الضيقة.
لقد أخذ أصحاب هذه المدرسة – حسب سليمان دائماً- بمقولات النظرية السامية في ظاهرة التجانس اللغوي الحضاري بين الشعوب السامية (!!) ثم في هذه الظاهرة نفسها بين "الشعوب الحامية" من دون أن يدرسوا أسباب هذا التجانس دراسة تاريخية مادية نقدية؛ دراسة تقوم على المكتشفات الأثرية والواقع الجغرافي لمناطق هذه الشعوب والقبائل السامية والحامية منذ أقدم العصور حتى ظهور الدعوة الإسلامية.
استعرض عالم الآثار توفيق سليمان أهم دراسات المستشرقين وبحوثهم فيما يعرف باللغات الشرقية التي تمخضت عنها النظرية السامية، وبيّن اعتماد المستشرقين هذه النظرية وتطويرهم مضامينها، وأوضح ضعف الأسس التي استندوا إليها في ذلك. وإنا لنأمل المتابعة في إطلالة لاحقة.
(يتبع)