الإرهاب.. بين سياسة التديّن.. وتديين السياسة

الإرهاب.. بين سياسة التديّن.. وتديين السياسة

تحليل وآراء

الجمعة، ٦ مارس ٢٠١٥

ربما حان الوقت الذي لن يجد الغرب فيه ذريعة لمعاركه وعدائه للعرب والمسلمين سوى مواصلة العزف على مسوغه الجديد وهو “الحرب على الإرهاب “ والذي يشير إلى أن عقيدة الهيمنة الغربية استنفدت مخزونها المعرفي في سياق ترتيبات السيطرة والتوسع التي شغلتها على امتداد الفترة الكولونيالية الماضية.
وتكمن المعضلة الراهنة في عقيدة الإرهاب بوصفها مقولة صنعها العقل الغربي ومهّد لها أرض العرب والمسلمين، ومضى بها إلى الحد الذي وجدت من يحملها ويتبناها، فالحرب المفتوحة على الإرهاب هي حرب الغرب على منتج صنعه بنفسه، ليستخدمه وسيلة لاستباحة المنطقة ويعيدها إلى ما قبل الدولة الوطنية عبر صيغ كانتونات ومعازل تنوء بالتشظي والتيه والإرهاب الأعمى.
وهنا، أقتبس تساؤلاً للصحفي البريطاني روبرت فيسك في مقالة له في جريدة “الإندبندنت” حول الموضوع وفيه يقول: “لماذا لا يتوقف الغرب عن نشر قنابل الموت وصواريخ التدمير على شعوب الشرق الأوسط، ولماذا لا يتوقف عن إرسال مرتزقته لاحتلال أراضي المسلمين؟”. ويضيف: “إن العدالة لا تصنع من المياه المالحة، حيث لا يزال الغرب يتطلع للسيطرة على العالم، بذريعة تسويق هذا المفهوم الغريب الذي يسمونه الحرب على الإرهاب”.

الإرهاب عقيدة كولونيالية جديدة
يتبين من هذا الاقتباس أن ديْدن الغرب الجديد مثقل بذرائعيته، وهي ثقافة آخذة بالتحول إلى نظرية معرفة لها نخب واسعة في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي، ولكي تتحول هذه إلى فتن منفلتة في طول الأرض وعرضها!.
من مفارقات هذا العصر “الخايب” الذي تعبره المنطقة، أن بعض النخب العربية والإسلامية لم تستيقظ من غفلتها، حتى وهي ترى وتسمع وتقرأ ظاهرة النقد الذاتي التي يمارسها ليبراليو العقل الغربي لسلوك حكامهم، ولنا أن نستقرئ بعض ما في الصورة على سبيل المثال:
لو قيل من باب التوصيف، إن ما يجري احتلال بامتياز، فيأتي رد البعض: هذا ليس بجديد، ثم لو إنك جاريت هذا القول، وسألت القائل عما لديه من تقدير لما يجري، لربما يأتي الجواب بجرعة زائدة من الغموض!.
تلك رمزية إعمال العقل التي ألفتها المنطقة على امتداد المراحل الكولونيالية، وهي غالباً ما تطفو على سطح الأحداث خصوصاً بين مرحلتين، كما هو حالنا اليوم، حيث عصر المنطقة بتحولاتها وعنفوانها وحروبها، العصر المفتوح على الانفعال وانعدام اليقين والتلقي والتنازع، والعصر الآخر أو الطور الآخر للغزو المركب، طور تتضافر فيه رغبات الخارج بقابليات الداخل واستعداداته، ليعود الغرب ويستأنف فوضاه العمياء في بلاد لم تعد بالنسبة له سوى حقول اختبار لحروب من كل صنف ولون.
مثل هذا التداخل المركّب، هو عين ما يرمي إليه الغرب عبر “منهجه المستجد” أي إلى حيث ينصرف الوعي السياسي في البلاد العربية والإسلامية عما هو حقيقي وواقعي إلى ما هو متخيل ووهمي، بمعنى محدد ينبغي ألا يغيب عن إدراك النخب، حقيقة أن الغرب لن يفلح بممارسة ثقافة التفكيك والتشظي ما لم يكن من أهل البلاد من يشاطره الوظيفة والدور.
مثل هذا التوصيف ليس رأياً ينتظر الوقت ليحكم عليه بالخطأ أو الصواب، ذلك بأن ما جرى ويجري في بلاد العرب يجعل من صور الانتحار الذاتي أمراً مرئياً لا تشوب كارثيته شائبة!.
إنما الغريب في المشهد، أن المعادلة باتت مقلوبة ومضطربة إلى درجة أن الشارع بغرائزه هو الذي يوجه النخب، وأننا لو تفحصنا المشهد، لوجدنا كيف ينبري البعض من النخب ليُعَقْلِن جنون الشارع المنفلت من عقاله.
في كل الأحوال ثمة مسؤولية ملقاة على عاتق “المتديّن التنويري والمثقف العضوي” ويحتاج هذا إلى جهد في العقيدة الدينية وتغليب المشترك الذي توفره النصوص السماوية، فجميع “ميليشيات الطوائف والمذاهب” على اختلاف انتماءاتها تدّعي وصلاً مع هذه النصوص التي تفترض شرحاً وتفسيراً من خصومها.
وتفترض مواجهة التكفير دوراً للإعلام ومراكز البحث في الإضاءة على أصل الإرهاب والتكفير، ومع ملاحظة أنه غالباً ما لا يتم فسح المجال أمام دور النخب الثقافية التنويرية، وتبادر المؤسسات الإعلامية إلى استحضار رجال الدين المتنورين ليعطوا رأيهم حول مضامين التديّن الوسطي، وإبراز القواسم المشتركة بين الأديان والمذاهب، باعتبار أن غاية الدين خدمة الإنسان وسعادته، كما يشاء ذلك الإله الواحد.
نعم هناك مسؤولية ومصلحة غربية وأمريكية وإسرائيلية وراء بروز ظاهرة الإرهاب بأسماء إسلامية، لكن ذلك عامل واحد من جملة عوامل أسهمت بتكوين وانتشار هذه الظاهرة، التي ما كان لها أن تنمو بهذا الشكل لو لم تكن هناك حالة ضعف وتراجع في الهوية الوطنية والقومية والحضارية، وغياب كبير لدور المرجعية الدينية التنويرية التصالحية.

من المستفيد من تفتيت الأوطان؟!
تعاني الشعوب العربية والإسلامية منذ عقود طويلة من مشكلة الخلط الأمريكي – الغربي، ما بين حق الشعوب المشروع بمقاومة الاحتلال، وبين الإرهاب المدان والمرفوض ضد المدنيين والأبرياء، وللأسف هناك بعض المجموعات المسلحة التي تمارس الإرهاب وتتحرك تحت أسماء عربية وإسلامية وتقدم خدمات مجانية – عبر ممارساتها وأفكارها – لهذا الخلط والغايات المرجوة منه، ولذلك، فإن الموقف المبدئي والناضج الرافض لهذه الممارسات أينما كانت هو المطلوب الآن، وليس الاكتفاء بالإدانة النسبية فحسب، تبعاً لاختلاف الجغرافيا أو المصالح وتقاطعاتها.
إن هكذا تيارات عنفية في المجتمعات العربية والإسلامية تعيش على حصاد أخطاء الآخرين، وتحاول تبرير ممارساتها بذريعة ممارسات الآخر، وهي في ذلك، لا تخدم سوى الطرف الذي تدّعي بأنها تستهدفه وتحاربه.
إن العنف يولد العنف المقابل دون شك، والتطرف يغذي بعضه البعض الآخر، رغم التباين في الشعارات والأهداف والمصالح، فهذه هي محصلة السنوات الماضية التي مرت على أحداث أيلول 2001 في الولايات المتحدة  ثم على حرب الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الإرهاب، بل إن نشأة هذه الجماعات المتطرفة العاملة بأسماء إسلامية هي أصلاً تأسست ونشأت بوسائل وطرق مشبوهة وملتوية، وولدت من رحم المخابرات الأمريكية والغربية والعربية، خلال حقبة الحرب الباردة بين النظامين “الرأسمالي والاشتراكي” كما تخدم الآن المشروع الكولونيالي الغربي في المنطقة، وللأسف، هناك من العرب والمسلمين من يقوم حالياً بخوض “معارك إسرائيلية” وهم ينجزون كل ما يندرج على أجندة “المشروع الكولونيالي الجديد” من تفتيت وتشظٍ طائفي ومذهبي وعرقي بهدف تهديم وحدة الكيانات الوطنية والقومية، وبالتالي إقامة حواجز وسدود من الدم بين أبناء الأمة الواحدة لصالح شرائح وفئات وطبقات مستفيدة من تفتيت الأوطان وتقسيمها، لتقيم دويلاتها الطائفية والمذهبية الخاصة، ولو على بحر من دماء الشعوب.
أليس هذا هو المشروع الصهيوأمريكي لتفتيت المنطقة العربية إلى كيانات وكانتونات متناحرة، أليست تلك هي المصلحة الصهيونية العنصرية كاملة بفعل ما جرى ومازال يجري اليوم في عدد من البلدان العربية والإسلامية من هدم لوحدتها الوطنية والقومية، ومن تصفية للقضية الفلسطينية المركزية؟!.
إن اتساع دائرة العنف الدموي باسم الإسلام أصبح ظاهرة خطرة على الإسلام نفسه، وعلى المسلمين وكافة المجتمعات، وهذه قضية تضع الإسلام الوسطي وعلماء الدين المتنورين أمام مسؤولية لا يمكن الهروب منها، فهم إما مترددون عاجزون عن ترشيد السبيل الديني، أو أنهم غائبون ومغيّبون، وفي الحالتين، فالمصيبة كبيرة، ولقد أصبح العنف باسم الدين أو المذهب ظاهرة بلا ضوابط، وهذا ما نراه في المجتمعات التي تسعى نحو التغيير، فالتغيير القائم على العنف المسلح لا يؤدي سوى إلى تفكيك المجتمعات والأوطان وتدميرها