نبذة تاريخية عن الحرفة الدمشقية .. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

نبذة تاريخية عن الحرفة الدمشقية .. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الخميس، ١٨ ديسمبر ٢٠١٤

 قدّم الباحث السوري الياس عبده قدسي للمجتمع العلمي الشرقي المنعقد بمدينة "ليدن" بهولندا في سنة 1883 للمستشرقين بحثاً يتضمن أنواع الحرف الدمشقية ومراتب المعنيين بها، اعتباراً من شيخ المشايخ ونزولاً إلى النقيب فشيخ الحرفة فالشاويش فالمبتدئ فالصانع، ثم سيتوقف مطولاً مع اصطلاح " شد الصانع" والحيثيات التي له والطقوس المهنية والاجتماعية الاعتبارية الناجمة عنه. وبعد اطلاع المستشرق السويدي الأستاذ (كارلو لاندبرغ) أبدى إعجابه وأشاد بالباحث السوري الشاب الياس قدسي معلناً قوله: "ها هو الآن قد وافانا بمادة مشوقة للغاية، وجديرة بأن تقرأ مع بالغ السرور".
 أما الياس قدسي فقد بدأ بحثه بالبسملة العربية الإسلامية (بسم الله الرحمن الرحيم) ثم أعلن بعدها أنّ البحث الذي أقدم على الخوض فيه "أمام حفلكم الموقر" هو نبذة تاريخية علمية عن الصنائع أو ما يقال لها "الحرف" في مدينة دمشق. وأشار إلى أنّ من بعثه إلى ذلك هو أنّه فاز بشرف معرفة العالم العلامة والبحر الفهامة الدكتور كارلو لاندبرغ الأسوجي الشهير، إذ سافرا معاً من بيروت إلى دمشق وكان آتياً من مملكة هولندا بقصد جمع لغة العامة في دمشق وضواحيها.
ولما علم الياس بغية كارلو التي من أجلها تكلف أن يكابد مشقات السفر ويحتمل مصاريفه، عرض نفسه عليه ألا يؤخر عنه التعب في كل ما يحتاج إليه للوصول إلى بغيته. كما عرض عليه ما كان الياس آخذاً من به من جمع الأصول المشتركة بين اللغتين العربية واليونانية، فأشار كارلو على الياس أن يضع مجموعة من مناداة الباعة لترويج مبيعاتهم من الفواكه والخضروات وأن يحرر نبذة في الحرف الموجودة في دمشق آملاً كارلو العثور ضمن ما يحرره الياس على بعض الكلمات والاصطلاحات التي يقصدها. يخبرنا الياس أنّه نظر بادئ بدء إلى هذين المبحثين نظر المزدري لكن لدى الفحص وجد أنّ مبحث المناداة جدير بكل الالتفات لأنّه يدل:
أولاً على: أجل الخواص التي يعتقد الشرقيون أنّها موجودة في تلك الفواكه والخضروات المتنوعة.
ثانياً على: المحل الأصلي الذي جلب منه صنف الفاكهة أو الخضرة المنادى عليها ويدل _ ثالثاً _ على محل اشتهار كل قرية أو بقعة من جوار دمشق أو سورية بصنف من الأصناف. كما يدل_ رابعاً _على كيفية تعبير الدماشقة في المناداة، وهذه طريقة تختلف جداً عن التي في بيروت وفي مصر وفي حلب.... وجميعها تدخل في مطالب التاريخ والعلم واللغة. ثم يخبرنا الياس أنّه كان قد باشر بهذه المجموعة ثم أرجأها، وذكر أنّ موعده بها في فرصة ثانية، أما المبحث الثاني المختص بالحِرف الشامية (الدمشقية) فهو كما يراه _ من أوجه عديدة _ أعمّ وأفضل من ذاك، ولهذا السبب بادر إليه خلال نظرة متفحصة لأحوال هذه الحرف في إطارها الدمشقي؛ وقد كانت نظرته تلك منتقدة مدققة، حيث رأى أنّها في تأخر عظيم يوجب الأسف من جهةٍ، وفي إتقان يوجب الدهشة من جهة أخرى. أما التأخير فلأن عموم الصنائع والفنون فقدت ما كانت عليه من الرّونق في الأزمنة الغابرة، وهي بعيدة عن أنّ تقاس على ما هي عليه الآن صنائع أوروبا وأميركا، بل بعض ما اشتهرت به هذه المدينة القديمة فُقِد مطلقاً كعمل السيوف الدمشقية والقيشاني والظاهري... وأسباب ذلك عديدة كما يراها الياس قدسي منها سياسية ومنها تجارية، وأعظمها إهمال العلم في هذه الديار، وتلك مسألة لا يحسن التعرض للكلام عليها في مثل هذا المقام. كان هذا رأي قدسي في القرن التاسع عشر لكنه يستدرك _بما يشبه الرد على رأيه السابق_ بأنّ بعض الدمشقيين أخذ من نحو خمس عشرة سنة، بتجديد صنعة النقش على الأواني النحاسية المسماة: صنعة الظاهري، والفضل في ذلك للشاب (اسكندر بن يوسف دوناتو) الذي ابتدأ به حين كان لا يبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة، وتوفاه الله وهو في شرخ الشباب، وقد أخذ عنه كثيرون، واتّسع جداً الاتجار بالنحاس الظاهري، لكنه إلى الآن لم يبلع حد الإتقان كما كان في القديم حسب رأي قدسي. وأما الإتقان _ حسب قدسي أيضاً _ الذي يوجب الدهشة، فهو كمال الانتظام وحسن الترتيب اللذان لم يزالا محفوظين من أزمنة قديمة إلى يوم قدسي ذاك بين عمَلَةِ اليدين من كل نوع وملّة، فهذا الانتظام والترتيب، وإن حصل له من بواعث قلبت مقصده إلى غير الغاية المرادة في الأصل، إنما لم يطرأ عليه تغيير في جوهره. فالحرف لها رئيس أعظم وهو شيخ المشايخ، ورؤساء ثانويون وهم مشايخ الحرف، ومعلمّون وصنّاع ومبتدئون _ أو خُدام _ في كل حرفة على حدتها، ولهم كلام ورموز تُصنع بالأيدي والأرجل. ولهم في كل مسألة رسوم لا يحيدون عنها، ولهم ارتسام يسمونه (الشد) أو (التمليح) يجرونه للمبتدئ عند انتقاله من درجته إلى درجة صانع، وآخر عند انتقاله من درجة صانع إلى درجة معلّم، ولهم أسرار وقصاصات وانتخابات ومآدب...
 قسّم المرحوم قدسي موضوعه هذا إلى فصول؛ ذكر فيها ما تيسر له الوقوف عليه فيما خص شيخ المشايخ، والنقيب وشيخ الحرفة والشاويش والمعلمين والصناع وشدّهم والمكافأة والقصاص، الخ. وحين يقارن قدسي هذه المراحل بما هي عليه "جمعية الفَعَلة الأحرار (الماسونية)" في زمنه، يرد عليه في زمن الناس هذا الذي نحن فيه الأستاذ أحمد إيبش فيشير إلى ضعف هذه المقارنة، بل بطلانها – وإن كان فيها بعض المقابلة من حيث الشكل – ويرى أنّها لا تعدو كونها قصوراً عن فهم هذه الطقوس السرية المرتبطة بالشدّ والعهود. ويرى أنّ الواقع في هذه الطقوس تتبع إلى ما عرف في العهود الوسطى (الأيوبية والمملوكية خصوصاً) بعهود الفتوة وشرب كأس الفتوة، وترجع هذه الأصول إلى النظر لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب في مصاف المثال الأعلى للفتوة والفداء كما في القول الشائع إسلامياً: (لا فتى إلا علي لا سيف إلا ذو الفقار). ثم انتشرت حركة الفتوة في الإمبراطورية العثمانية في الأناضول، فعُرفت بفتيان الآخيّة في القرن السادس عشر، ثم ارتبطت بالطريقة البكطاشية في التصوف الإسلامي. وما يذكره قدسي القرن التاسع عشر إنما يمثل – برأي إيبش – البقية الباقية لهذه التنظيمات بدمشق التي كانت مرتبطة بالانكشارية فلما زالت الانكشارية تحوّلت هذه التنظيمات إلى نقابات مهنية مدنية، وصفها لنا قدسي في مرحلتها الأخيرة قبل انقراضها.
 (يتبع...)