هل أنهى الجيش السوري لعبة «الدويلات الآمنة»؟

هل أنهى الجيش السوري لعبة «الدويلات الآمنة»؟

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٦ ديسمبر ٢٠١٤

تبدو معارك الجيش السوري منتقاة بعناية فائقة، وهي تواكب بنود خطة سياسية لإعادة توحيد البلاد، أكثر من كونها مجرّد أعمال عسكرية تتصدّى لإرهاب تكفيري هو الذي يحدّد مكان المعارك وزمانها. هذا ما كشفته المعارك الأخيرة على جبهات لها مدلولات سياسية، وخصوصاً مدينة حلب، حيث هاجم الجيش السوري فجأة بعض مناطقها واستعادها، وتكفيه السيطرة على مزارع حندرات والكاستيلو حتى يطوِّق المسلحين داخل المدينة في شكل كامل ويعزلهم عن خطوط اتصالهم بالأرياف الممتدّة حتى تركيا.
إنّ المغزى السياسي لهذه المعركة هو أنها تضعف ورقة القوى الإرهابية التي كانت تراهن على ورقة الوسيط الدولي ستيفان دي ميستورا، وهي ورقة تسعى إلى تأسيس منطقتين آمنتين في حلب: واحدة للنظام وأخرى للمعارضة كان يمكن لها أن تمتدّ من قلب مدينة حلب حتى الحدود التركية. وبما أنّ الوسيط دي ميستورا يريد موافقة مجلس الأمن على النقاط الواردة في مشروعه، فإنّ هذه «الدويلة» كانت ستنعم من دون أدنى شك بحماية مجلس الأمن من جهة، والإمداد التركي المستمرّ من جهة ثانية، فتصبح مشروع «دولة فعلية» لها امتدادها.
أما في الغوطة الشرقية وجوبر الدمشقيّين، فقد سجّل الجيش السوري تقدماً كبيراً وستؤدّي استعادة تلك المناطق إلى إنهاء الإرهاب من الغوطة، وتدمير تأثيرها على العاصمة السورية. كما تمّ اكتشاف عشرات الأنفاق المعدّة بعناية، والتي يعكف الجيش على تدميرها والاستفادة من بعضها في هجمات أخرى.
المدلول السياسي لهذه المعارك، هو إصرار النظام السوري على منع ربط الإرهاب بين الغوطة ومناطق القنيطرة، بما يشكل خطراً على الدولة السورية بأسرها. لذلك يربط الجيش السوري بين استمرار القتال على جبهة القنيطرة القريبة من الحدود مع الجولان المحتلّ وبين معاركه في الغوطة الشرقية. فمناطق القنيطرة هي أصلاًَ الجبهة الثالثة المرتبطة بالخطة السياسية، واستمرار القتال فيها يمنع استيطان الإرهاب المدعوم من «إسرائيل». أيّ أنّ الخطة السورية ترفض التهدئة على هذه الجبهة وتصرّ على إبقاء الوضع متوتراً، تربُّصاً لظروف أفضل يتمكن فيها الجيش السوري من إنهاء الورقة «الإسرائيلية» في الأزمة السورية.
أما الجبهة الرابعة، فهي دير الزور بمطارها المقاوم ونحو نصف سكان المدينة يوالي الجيش السوري ببسالة نادرة. وقد تمكنت حامية هذا المطار من صدّ عشرات الهجمات الإرهابية التي تريد إنهاء وجود النظام في كامل محافظة دير الزور، والأهمية السياسية للصمود في المطار والمدينة، أنه يمنع سقوط المحافظة بكاملها، وإلحاقها بمحافظة الرقة وهي الوحيدة التي ينفرد «داعش» بالسيطرة عليها.
ويبدو أنّ أهالي دير الزور بدأوا يخرجون من «بيعة داعش» الوهمية، وهم يعودون إلى الالتحاق بجيشهم، ما يشكل أساساً قوياً لتحرير كامل دير الزور وتطويق الرقة من جهة هذه المحافظة، ومناطق الحسكة. وهكذا يمنع الجيش السوري إنشاء دويلات يمكن لها أن تترابط في ما بعد وتشكل دولة انفصالية قوية تؤدّي إلى تصدّع سورية الحالية وتقسيمها إلى عدة كيانات متحاربة ومتناقضة لا تفيد إلا «إسرائيل» وتركيا والسعودية، وهذا يؤكد أنّ المطلوب من خطة التآمر هو القضاء على الدور السوري الإقليمي الذي تخصّص فيه طويلاً الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى حدود الإبداع بإمكانات متواضعة. والسؤال: كيف يمكن أن نفهم أبعاد مبادرة الوسيط دي ميستورا والمساعي الروسية لعقد مؤتمر «موسكو1» بين النظام السوري والمعارضة الداخلية والمعارضة الخارجية المقبولة؟
نستنتج أولاً أنّ الجيش السوري أنهى بخطته العسكرية الحالية، وفي شكل كامل، نتائج مؤتمر جنيف التي كانت تركز على حكومة انتقالية كاملة الصلاحية بين المعارضة والموالاة، والدليل أنّ معارضة فنادق «الخمس نجوم» في تركيا وقطر وباريس لا تزال متمسكة به، وقد أبلغت المندوب الرئاسي الروسي ونائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف إصرارها على جنيف واحد، ما يعني تلقائياًَ استبعادها من مؤتمر موسكو، إلا إذا أعادتها الولايات المتحدة الأميركية إلى رشدها ولجمت مدى تأثرها بـ»السلطان» التركي أردوغان والدسائس الفرنسية والشعوذة السعودية.
هناك إذاً، سباق شرس بين خطة الجيش السوري «السياسية» ومساعي دي ميستورا الدولية ومؤتمر «موسكو1»، وإذا كانت المساعي الدولية والمؤتمر الروسي يراوحان في الوقت الراهن مكانهما، فإنّ خطة الجيش السوري مستمرّة وبنجاح.
والملاحظ أنّ العلاقات الإقليمية والدولية المتوترة ترجّح جنوح الأوضاع السورية الداخلية إلى خطة الجيش السوري، لأنّ الدول الإقليمية المؤثرة هي في حالة احتراب شديد وتترقب نتائج المفاوضات حول النووي الإيراني التي استؤنفت من أجل الاتفاق على ما تبقى من نقاط خلافية، ولأنّ العلاقات الروسية ـ الأوروبية متدهورة بسبب أحداث أوكرانيا وملف الغاز، كما أنّ العلاقات الروسية ـ الأميركية ليست في أحسن أحوالها. لذلك تتسلّم روسيا الراية في الشرق الأوسط وسط ما يشبه الإذعان الأميركي والدليل نسف «جنيف 1» الذي تتمسّك به معارضة الخارج وتركيا والسعودية وقطر و«إسرائيل».
في انتظار مُقبل الأيام، يُرتقب أن يزداد الدعم الروسي والإيراني للجيش السوري، إذا ما تعثرت فكرة «موسكو1» في مشروع تشكيل حكومة سورية موسعة بين النظام والمعارضة. والمرجح أن تكون خطة الجيش السوري «السياسية» هي الحلّ الأخير لإعادة تحرير البلاد وإنتاج سورية حرة وديمقراطية.