ولادة جديدة.. بقلم: ندى الجندي

ولادة جديدة.. بقلم: ندى الجندي

تحليل وآراء

الاثنين، ١٥ ديسمبر ٢٠١٤

عاد بعد غياب طويل من رحلة قاسية.. قاسية جداً.. وفي العودة رؤية جديدة يحملها.. قد تثاقلت عليه الأيام.. أفي الجحيم كان يمضي ليله أم أنّه كان يلهو في جنة النعيم؟؟
ولكنه عاد رغم قساوة العودة.. عاد من جديد حاملاً معه ذاكرة تلك اللحظات التي لا تنسى.. عاد وهو يتفحص بعيون ثاقبة ما يجري وما جرى من حوله..
هو الوحيد الذي استطاع أن يحتفظ بذاكرته وللذاكرة وجود يتلاشى معها الإنسان فأي آثار حملتها ذاكرته في لياليه التي أمضاها في رحلته البرزخية تلك وأي معنى تضفيه عودته؟؟
وأي صدى تحمله إلينا رحلته؟؟
إنّها أسطورة الجندي (Er le pamphilion) (إيرس البامفيليان) مات في المعركة وهو يدافع بشرف عن أرضه ولكنه عاد بعد أن فارقته الحياة لأكثر من اثني عشر يوماً تحررت فيها روحه من جسده وحطت مع أرواح أخرى في مكان إلهي.. مرج تكسوه أزهار الزنبق وتضفي عليه عبقاً لا مثيل لعطره.. أي مكان غريب هذا الذي سافرت إليه روحه يستثير العقول بجماله وغموضه.. إنّه مكان جميل له أربعة أبواب بابان باتجاه السماء وبابان باتجاه الأرض.
في هذا المكان تتم محاكمة الأرواح فمن كانت روحه نقية طاهرة اتخذ طريق اليمين باتجاه بوابة السماء حاملاً على صدره صك محاكمته.. صك براءته.
أما من كانت روحه مشبعة بالشرور فسيكون الشمال طريقه ليغوص في أعماق الأرض في صميمها حاملاً على ظهره صك محاكمته.. صك إدانته.. والغريب في هذه الأسطورة أنّ الأبواب الأخرى فيها طريق للعودة تعود من خلالها الأرواح بعد أن قضت آلاف السنين فمن كانت إقامته في السماء عادت روحه ناصعة كصفحة بيضاء مشبعة بعاطفة الحب والخير.
أما من كانت إقامته في أعماق الأرض فعادت روحه وهي تشكو مرارة الأيام بعد أن ذاقت آلام الجحيم وقضت مدة سوداء تضاعف ألف مرة من المدة التي قضتها الأرواح الخيرة في السماء.. نعود إلى (إيرس Er ) وما ترويه قصة تجربته الفريدة من نوعها حيث ينتابه الذهول عندما يكتشف أنّ أبواب الأرض ترفض أن تفتح الطريق أمام أرواح الأشقياء العائدين من جحيمها الذين لم يكفّروا حقيقة عن خطاياهم.. فقد كتب عليهم أن يظلوا قابعين في ظلام الجحيم.
يا لهول هذا المشهد.. شعور رهيب وحزين ينتاب (إيرس Er ) ومن معه من الأرواح الطيبة لدى رؤية الأبواب قد أغلقت في وجه الأرواح المحتالة وأجبرتها على العودة إلى عمق الجحيم أي قدر أسود خطته قلوبهم.
يصف إيرس هذه اللحظات بأنّها الأشد قسوة ومرارة التي واجهها في رحلته هذه.
انتقل بعدها (إيرس Er ) ومن معه إلى حقل جميل ومكثوا فيه سبعة أيام وفي الوقت المناسب تم فتح ثمان مجالات وظهرت ثلاث فتيات آلهة الأولى تمثل الماضي والثانية تمثل الحاضر والثالثة تمثل المستقبل.
تقترب آلهة الماضي (لاشيسيس lachesis) من الأرواح وهي تغني أغنية تدعو فيها إلى الانسجام وتطلب منهم أن يختاروا الشكل الذي سيعودون به إلى الحياة، هل يريدون العودة على شاكلة إنسان أم في صورة حيوان وهل ستكون لمدة طويلة أم قصيرة، وأخيراً هل ستكون عودة مضيئة أم مظلمة ولكنها لا تطلب منهم أن يختاروا حالة الأرواح أهي أفضل أم لا حيث تقع على عاتق كل شخص أن يختار مساره والاتجاه الذي سيلتمسه في حياته.
فكل إنسان مسؤول عن اختياره!
يكتشف (إيرسER ) أنّ الكثير من الأرواح اختاروا الموديل أو الشكل ذاته الذي اعتادوا عليه أي وفق عاداتهم القديمة حتى الذين عادوا من السماء فقد كانوا يمارسون طقوس عبادتهم بطريقة تقليدية تكرارية دون أن يكون وراءها أي معنى فلسفي.
أما الذين عادوا من جهنم، بعضهم بعد أن ذاقوا آلام العقاب كان اختيارهم يعكس حكمة كبيرة ورؤية عميقة.
توضح آلهة الماضي (لاشيسيس lachesis) "أنّ المسؤولية تقع على الإنسان وحده في اختياره وليس على الآلهة".
ومتى تم الاختيار يتم توقيع قراره مع آلهة الحاضر (كلوتو Cloto) ويتم توثيقه مع آلهة المستقبل (آتروبوس ATROPOS) بحيث لا يستطيع أن يعود عن قراره أو أن يغيّر في اختياره.
وعندما يحين المساء بعد أن اختارت كل روح شكل عودتها إلى الحياة تذهب الأرواح جميعها إلى نهر (Ameles) وتجبر على الشرب من مياه (نهر النسيان) فكل من يشرب من ماء هذا النهر يفقد تماماً ذاكرة حياته الماضية.
فقط الجندي (إيرس) لا يشرب من النهر حيث اختارته الآلهة ليكون شاهداً ويعود بين الأحياء حاملاً معه ذاكرته يروي ما شاهده
وفي الليل كل روح تتمثل في شكلها الجديد وتعود إليها الحياة.
(إيرس) الذي حارب وواجه الموت.. يعود إلى الحياة من جديد ولكنه حامل ذاكرته أي معنى وأي رمز تعكسه أسطورة الجندي إيرس؟؟
عاد الجندي (إيرس) من الموت وقد تعلم درساً لا ينساه أبداً في حياته وهو الذي قُدر له أن يكون حاملاً على عاتقه ذاكرة الإنسان.. هو يدافع عن أرضه.. عن وجوده.. والأرض هي الذاكرة التي لا تمحى.
أدرك من رحلته أنّ الإنسان هو المسؤول الأول والأخير عن حياته إما تكون مشبعة بالحب والإيمان والخير أو تكون محفوفة بالأشواك والآلام تجرح كل من لامسها أو اقترب منها.
ولكن لماذا الذين عادوا من جهنم كان اختيارهم يتمثل فيه الحكمة؟
الأسطورة ترمز في بعدها إلى أنّ المحن والصدمات مهما كانت قاسية إلا أنّها تجعل الإنسان أكثر صلابة وتجبره على رؤية الحياة بشكل أعمق.
أهم ما ترمز إليه الأسطورة في عمقها أنّه أصعب شيء تغيير روح إنسان وجعلها فاضلة إذا كان هو لا يدرك أهمية وضرورة هذا التغيير.
مرحلة قاسية نمر بها أتمنى أن نخرج منها أقوياء وتعود إلينا الحياة من جديد كما عادت إلى (إيرس Er ).