العصا لمن عصى البيت الأبيض...هل نحن بصدد مسرحية اوكرانية جديدة

العصا لمن عصى البيت الأبيض...هل نحن بصدد مسرحية اوكرانية جديدة

تحليل وآراء

الأربعاء، ٢٦ نوفمبر ٢٠١٤

البيت الأبيض يصب جام غضبه على رئيس وزراء هنغاريا فيكتور أوربان بعدما كان ولفترة خلت الحبيب المدلل للإدارة الامريكية والمحافظين الجدد. فعندما انتخب لأول مرة كرئيس وزراء هنغاريا عام 1998، كان من المحركين الأساسيين الذين عملوا على دخول هنغاريا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا الى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، على الرغم من الاعتراض الروسي لان ذلك كان مخالفا للتعهدات التي قطعتها الإدارة الامريكية لغورباتشوف قبل تفكك جمهوريات الاتحاد السوفياتي، على ان أمريكا لن تسعى الى ضم أي من الجمهوريات السابقة للاتحاد السوفياتي الى حلف الناتو بالتحديد. وقد عمل اوربان أثناء شغله منصب رئيس الوزراء في هنغاريا 1998-2002 على اجراء بعض الإصلاحات الراديكالية وتحسين الأوضاع الاجتماعية في هنغاريا، وجلب استثمارات أوروبية وخاصة الألمانية اليها مع وجود ايدي عاملة هنغارية رخيصة. وكان مرضيا عليه من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في آن واحد وكان لديه عدد من المستشارين الامريكان ومن أشهرهم حيمس دينتون الذي كان له ارتباطا وثيقا بالمنظمات الغير حكومية في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، وفيما يعرف بالثورات الملونة في بعض تلك الجمهوريات. بعد عام 2002 عمل اوربان على تجميع الأحزاب اليمينية وكون حزب يمين الوسط ( (Fidsez وشغل منصب الرئاسة فيه. وتمكن الحزب من الفوز في الانتخابات عام 2010 ومرة أخرى 2014 ، وحصل على 68% من مقاعد البرلمان الهنغاري مما فتح له فرصة احداث تغيرات جذرية في البلاد حيث قام بإدخال قوانين جديدة كما قام بتغيير دستور البلاد دون ان يجابه باي معارضة تذكر. ولقد شملت التغييرات وضع بعض القوانين الخاصة بوسائل الاعلام والتي تتطلب منها مراعاة التوازن وعدم الانحياز في التقارير المقدمة من قبل الصحفيين الذين يعملون تحت المراقبة من قبل لجنة إعلامية معينة من قبل الحكومة. ولقد اشارت صحيفة نيويورك تايمز في احدى افتتاحياتها على ان التغيرات التي شملها الدستور تحتوي على تقييد حرية الاعلام والحقوق المدنية (نيويورك تايمز 6 نوفمبر 2014). وبدأت الصحافة الغربية بتوجيه انتقادات الى الحكومة الهنغارية والى رئيس وزراءها بدعوى تقييد الحريات العامة وحرية التعبير وتحويل الحكم في هنغاريا الى حكم ديكتاتوري وخاصة بعد ان حقق حزب Fidsez نجاحات كبيرة على المستوي الوطني والمحلي والانتخابات للبرلمان الأوروبي. ولقد تظاهر ما يقرب من 100000 هنغاري في بودابست امام مبنى البرلمان للاعتراض على المقترح الذي قدم من قبل حكومة أوربان لوضع ضريبة على استخدام الانترنت واعتبر هذا تقييد لحرية الراي، ولقد حثت المفوضية الأوروبية علانية الهنغاريين بالتظاهر، وهو ما اعتبر تدخلا بالشؤون الداخلية للبلد. ومما زاد من غضب الاتحاد الأوروبي التصريحات التي ادلى بها اوربان من انه يعتزم ان يحول هنغاريا الى دولة "غير ليبيرالية" متخذا روسيا وتركيا والصين كنماذج. وبالمجمل فان الاتحاد الأوروبي اعتبر أن ما يحدث في هنغاريا مخالفا لميثاق الاتحاد الأوروبي الذي يفرض على الأعضاء احترام الديمقراطية، والحرية وحقوق الانسان، ومن ضمنها حرية الصحافة وحرية التعبير. ومن الواضح ان اوربان لا يريد ان يستجيب للإملاءات التي تأتي من بروكسل والمفوضية الأوروبية والتي لا تجلب معها الا الدمار في الكثير من الأحيان، ومثال أوكرانيا واضح امامه على ما يبدو. ربما كل ما فعله اوربان من "ذنوب" في هذا المجال كان من الممكن تجاوزه وخاصة ان الجميع يعلم علم اليقين ان الديمقراطية وحقوق الانسان وحريات التعبير في الدول الغربية بشكل عام ما هي الا يافطات تعلق لخدمة مصالح معينة، والجميع الان يدرك أن هذه الأمور تقاس بمقاييس مختلفة تبعا للظروف والمصالح والدول المعنية. والكيل بمكيالين في العديد من الازمات في العالم من قبل الدول الغربية لا تعد وال تحصى. وخير مثال على ذلك هو التعامل مع الارهاب، فهي تحارب الارهاب في مناطق ولكنها تدعم نفس الارهاب في مكان آخر. على العموم قلنا ان لو كانت هذه هي مجمل "ذنوب" حكومة اوربان أو "خطاياه" لأمكن غض النظر والتغاضي عنها. ولكن هنالك الخطيئة الكبرى الذي اثارت الطرف القابع على الطرف الاخر من الأطلسي والذي يراقب عن كثب ماذا يجري في أوروبا ويصدر الأوامر الا وهو البيت الأبيض. والخطيئة الكبرى الذي ارتكبتها حكومة اوربان مؤخرا هي اتخاذ القرار لإفساح المجال باستكمال عمليات البناء لخطوط الانابيب الروسية "السيل الجنوبي" المار في الأراضي الهنغارية متحديا بذلك طلب دول الاتحاد الأوروبي وقرار المفوضية الأوروبية بوقف كل عمليات الانشاءات المتعلقة بخط "السيل الجنوبي" الروسي في الدول الأوروبية التي يمر بها هذا الخط بحجة ان هذا الخط لا يخضع للمواصفات والقوانين الأوروبية. "والسيل الجنوبي" هو الخط الذي بني متجاوزا الأراضي الأوكرانية، والذي من المفترض ان يعمل على امداد الدول الأوروبية 63 مليار متر مكعب من الغاز الروسي سنويا. والولايات المتحدة وقفت ضد هذا المشروع منذ البداية لأنها رات فيه زيادة اعتماد دول الاتحاد الأوروبي على الغاز الروسي وما قد يجلبه هذا من علاقات اقتصادية وسياسية متبادلة بين الطرفين، مما يقلل من التأثير الأمريكي على الدول الأوروبية ونهاية لحلف الناتو تدريجيا. هذا بالإضافة الى تحسين الوضع الاقتصادي الروسي وبالتالي دورها على الساحة الأوروبية والعالمية في الوقت الذي يشهد تراجعا اقتصاديا وعسكريا للولايات المتحدة. وبالإضافة الى "السيل الجنوبي" فقد قامت هنغاريا يالتوقيع على اتفاقية مع روسيا بقيمة 10 مليارات دولار لصيانة وتحديث المحطة الوحيدة لتوليد الكهرباء التي تعمل بالطاقة النووية في هنغاريا. الى جانب ذلك فقد عمدت حكومة اوربان لتحرير هنغاريا من عبودية صندوق النقد الدولي، حيث قامت الحكومة بدفع 2.2$ مليار وهو المبلغ المتبقي عليها من الديون للصندوق، وبالتالي لم تعد خاضعة لإملاءات الصندوق من خصخصة القطاع العام والشروط المجحفة من إعادة هيكلة الاقتصاد ورفع الدعم الحكومي للسلع الأساسية وغيرها التي تدمر البلد وتجعله فاقد للسيادة والقرار المستقل. ولم تكتفي الحكومة بهذا فقد طلبت من صندوق النقد الدولي اقفال مكاتبه في بودابست. بالإضافة الى ذلك فقد قدم المدعي العام الهنغاري دعوة جنائية ضد ثلاثة من رؤساء الوزارات السابقين لإغراق الدولة في كميات كبيرة من الديون. روح التحدي هذه التي تأتي من رئيس الوزراء الهنغاري في الوقت الذي تسعى فيه الإدارة الامريكية لزيادة الضغوط الاقتصادية على موسكو على أمل ان يؤدي ذلك الى محاصرة وتحجيم دورها على الساحة الأوروبية من خلال عقوبات اقتصادية صارمة وجائرة، وفك ارتباطاتها مع الدول الأوروبية وبالتحديد في مجال تصدير الغاز الذي يشكل العصب والشريان الرئيسي للاقتصاد الروسي، نقول ان هذا التحدي لم يرق للولايات المتحدة على الاطلاق. والمؤشرات على ذلك كثيرة. فقد قامت الإدارة الامريكية بمنع ستة من المسؤولين في هنغاريا من الدخول الى الأراضي الامريكية بتهمة الفساد والتلاعب بالنظام الضريبي. وفي تصريح للرئيس أوباما ادلى به مؤخرا صنف أوباما هنغاريا من فئة الدول التي تهدد عمل منظمات المجتمع المدني مثل مصر وأذربيجان ( الايكونومست 22 نوفمبر 2014). ومن المفترض ان يدق هذا ناقوس الخطر وخاصة بعد ما رأينا الذي حدث في أوكرانيا والحديث عن المجتمع المدني ومليارات الدولارات التي صرفت على هذه المنظمات وذلك باعتراف السيدة نولاند نائبة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأوروبية في مكالمتها الشهيرة مع السفير الأمريكي في كييف. وقد يفسر هذا خروج 100000 متظاهر الى الشوارع في أكتوبر احتجاجا على المقترح الحكومي بوضع ضريبة على استخدام الانترنت، حيث شكك بعض المراقبين بوجود ايدي أمريكية وراء هذا. الى جانب ذلك فقد تجمع مؤخرا في 17 نوفمبر ما يقرب من 10000 متظاهر أمام مبنى البرلمان في بودابست للاحتجاج على ادعاءات الفساد ومركزة السلطة، وهي الاتهامات الموجه الى الحكومة الهنغارية من قبل الإدارة الامريكية. فهل يعقل ان يكون هذا مجرد مصادفة ؟ أم اننا امام مشهد سيتم فيه تكرار المسرحية الأوكرانية ؟