دفاتر شامية عتيقة..الخلخال والمنيبع.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

دفاتر شامية عتيقة..الخلخال والمنيبع.. بقلم: عبد الرحمن الحلبي

تحليل وآراء

الخميس، ٣٠ أكتوبر ٢٠١٤

أسأل نفسي قبل أن يسألني الآخرون لمَ الإلحاح على استحضار ما أورده أبو البقاء البدري من افتتان بدمشق فأجيب السائل بسؤال أستحضره من أبي فراس الحمداني، سؤال يقول: أليس في الليلة الظلماء يفتقد البدر؟. ثم أليست غوطة دمشق التي استوحى منها أبو البقاء عبد الله ابن محمد البدري المصري الدمشقي موضوع كتابه "نزهة الأنام في محاسن الشام" الذي جالسنا جوانب منه ونكمل مجالستنا معه في هذه الهمسة التي نرسلها من محلتي "الخلخال والمنيبع" لنتبين أن هذه المواضع واحدة من أبدع مجالي الجمال الطبيعي في العالم، حسب العارفين بها، بل ربما كانت البقعة المتفردة بجمالها في عصر المؤلف. فلمَ أضحت في يوم الناس هذا بمثل ما أصبحت عليه من حيف وخسف وحتف؟! ألم يقف في غوطتها حسان بن ثابت والبحتري وأحمد شوقي والأخطل الصغير وسعيد عقل ونزار قباني وكل من عشق الجمال وآمن بمبدع الجمال؟. ألم يقف أنور العطار الشاعر الشامي الأنيق ليعلن قوله فيها:
عالم من نضارة واخضرار
فاتن الوشي عبقري الإطار
ضم دنيا من البشاشة والبشر
وما يشتهي من الأوطار
 ألم يفتتن الأدباء كما الشعراء بأزهارها وأثمارها والإشارة إلى ضواحيها ونواحيها؟ ألم يستحضر إليها واحدٌ من مبتدعي فن الرواية في سورية منذ قرابة قرن من الزمن أبي سفيان وحسان وأمية بن أبي الصلت في فناء كنيسة دمشقية يسمونها بيعة ونعني به الأديب معروف الأرناؤوط في عمله الروائي الذي عنوانه سيد قريش. في فناء تلك البيعة كان أبو سفيان ينتظر فانضم إليه الشاعر حسان وبعد قليل خرج من الصلاة الشاعر أمية فعرّف أبو سفيان كلاً من الشاعرين على بعضهما لأنّ كلاً منهما كان يسمع بالآخر ولا يعرفه. كان هؤلاء أيضاً من عشاق دمشق وغوطتها وأثمارها وأزهارها وسوق أشجارها ومياهها وضواحيها ونواحيها. فالمدينة التي اختصها البدري بكتابه هذا هي أقدم مدينةٍ ثبت عمرانها على وجه الدهر؛ وهذا ياقوت الحموي ينقل في معجم البلدان قول أبي بكر الخوارزمي: جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصعد سمرقند، وشعب بوّان، وجزيرة الأبلّه. قال: "وقد رأيتها كلها، وأفضلها دمشق". قال ياقوت: "وجملة الأمر أنه لم توصف الجنة بشيء إلا في دمشق مثله. ومن المحال أن يطلب بها شيء من جليل أعراض الدنيا ودقيقها إلا وهو فيها أوجد من جميع البلاد".
 من محاسن الشام عند البدري محلة (الخلخال) ومحلة (المنيبع). فمحلة الخلخال كما يحدد موقعها اليوم الباحث والمؤرخ التراثي د. أحمد أيبش موقعها في أيامنا هذه حي الحلبوني ومحطة الحجاز ومبتدأ حي زقاق الجن خلفهما، ووراءها كانت اللؤلؤة الصغرى وقينية اللتان تنطبقان على زقاق الجن، والحمرية (الحميريين) التي تنطبق على منطقة المجتهد ودوار كفر سوسة هذه المحلة بها الآن بها سويقة وحوانيت وفرن وحمام وهي مسكن الأتراك، وكذلك المنيبع والشرفان وبه يدق طبل خاناتهم، وبها زاويتا الأدهمية والحصوية وهي تحف بالناس والأعيان. وما أحسن قول الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة في وصف الخلخال:
ياحبذا يومي بوادي جلق
ونزهتي مع الغزال الحالي
من أول الجبهة قبلته
مرتشفاً لآخر الخلخال
 والمنيبع محلة وسويقة وحمام وأفران وبها مدرسة (الخاتونية) وهي من أعاجيب الدهر، يمر بصحنها نهر (بانياس) ونهر (القنوات) على بابها، ولها شبابيك تطل على المرجة وبها ألواح الرخام لم يسمح الزمان بنظيرها وعدة خلاوي للطلبة، وبجوارها دار الأمير الأصيل (ابن منجك) رحمه الله تعالى، وبها سكن القاضي بهاء الدين بن حجي الشافعي رحمه الله تعالى. وهذه المحلة من محاسن دمشق وشرفها.
 هوامش: (1) المنيبع محلة قديمة بدمشق بدلالة اسمها الآرامي الذي يعني عين الماء المتدفقة. تقع إلى الغرب من المدينة, إلى الجنوب من نهر بردى، ويمر بها نهرا بانياس والقنوات موقعها في أيامنا يمتد من الحلبوني والبرامكة والجامعة حتى الجمارك غرباً بأعلى ساحة الأمويين.
 (2) المدرسة الخاتونية البرانية إحدى آثار العهد الأيوبي كان موقعها عند مبنى الإذاعة والتلفزيون بساحة الأمويين حالياً.