الجيش اللبناني بين الاستنزاف والحسم

الجيش اللبناني بين الاستنزاف والحسم

تحليل وآراء

السبت، ٢٥ أكتوبر ٢٠١٤

 ما نشهده في لبنان من تنامي للجماعات الإرهابية ليس جديداً، فهو يمتد الى أواخر العام 1999 وبدايات العام 2000، حيث كانت المعركة الأولى مع الإرهاب في جرود الضنية في جبال الأربعين وجرد الإجاص حين أقدم المدعو بسّام كنج العائد من أفغانستان على إعداد أولى المجموعات الإرهابية والتي كان على رأس أولوياتها في تلك الفترة تفجير بعض الكنائس عشية عيد الميلاد، وهي المعلومات التي وردت حينها الى مخابرات الجيش اللبناني الذي عمد الى إقامة حاجز في بلدة عاصون وهي نفس البلدة التي تم القبض فيها البارحة على احمد سليم الميقاتي الذي كان من ضمن مجموعة جرود الضنية سنة 2000.

بدأت المعركة يومها عندما توجه المقدم الشهيد ميلاد النداف لتفقد الحاجز، فأخبره أحد العسكريين أنّ في الوادي سيارة وبقربها أحد المسلحين ما جعل المقدم الشهيد يبادر مع خمسة من عسكرييه بالتوجه الى مكان السيارة والطلب من المسلّح إلقاء سلاحه، ليتفاجأ المقدم ومجموعته بكمينٍ مؤلفٍ من 20 إرهابيًا أقدموا مباشرةً على إطلاق النار، فاستشهد أربعة عسكريين وتم أسر المقدم الشهيد مع جندي يدعى محمد ملص.
حينها لم يتوانَ الجيش عن القيام بواجبه وتابع الأمر الى أن تمّ قتل بسام كنج وأغلب أعضاء مجموعته، في حين فرّ البعض الى مخيم عين الحلوة ومن بينهم أحمد سليم ميقاتي الذي ألقي القبض عليه لاحقاً بتعاونٍ بين المخابرات الإيطالية ومخابرات الجيش اللبناني بسبب تورط ميقاتي بالتخطيط لتفجير السفارة الإيطالية، ميقاتي الذي أُفرج عنه فيما بعد بنتيجة العفو العام المرتبط بسمير جعجع.

مسألة أخرى لا بد من ذكرها وهي شهادة أدلى بها حليم النداف أخ المقدم الشهيد ميلاد النداف الذي تواصل معه النائب خالد الضاهر حينها وطلب منه الضغط على قيادة الجيش لتسهيل فرار المجموعة مقابل إطلاق أخيه المقدّم الشهيد، وهو الأمر نفسه بأشكال أكثر وضوحاً وتندرج في سياق التحريض والتسهيل يمارسها منذ ثلاث سنوات النائب الضاهر وصولاً الى إعتراف الميقاتي والمعلومات التي يحتويها هاتفه الخلوي التي تفضح علاقة الضاهر بميقاتي، وهي علاقة على ما يبدو تمتد الى سنة 2000 تاريخ الإشتباك مع مجموعة الضنية.

وحتى لا نطيل كثيراً في التوصيف نذكّر فقط ببعض المحطات ومنها إكتشاف ما عرف بمجموعة الماكدونالدز سنة 2001 بقيادة اليمني عبدالله العوامي العائد من البوسنة، ومجموعة محمد سلطان سنة 2002 وأكثر من مجموعة بين عامي 2004 و2006 أبرزها مجموعة الدعوة والتبليغ بقيادة غسان الصليبي والتي كان على رأس مهماتها إغتيال السيد حسن نصرالله، وبالتأكيد مجموعة فتح الإسلام التي حوصرت في مخيم نهر البارد ودخل الجيش معها في معارك طويلة أدّت في النهاية الى قتل وأسر معظم أفراد هذه الجماعة التي كانت بالمئات.
مع بداية الأزمة في سورية بدأت عمليات رصد دقيقة لمخابرات الجيش اللبناني تشير بوضوح الى تورط الكثير من اللبنانيين في الحرب على سورية والكثير من العمليات المشبوهة المرتبطة بنقل المقاتلين والأسلحة عبر الأراضي اللبنانية الى سورية، وأنّ عرسال على وشك التحوّل الى قاعدة خلفية لوجستية للجماعات المسلحة السورية وللوافدين الى سورية عبر معبر عرسال ومعابر تل كلخ وغيرها في الشمال اللبناني، وهو أمر أشار اليه وزير الدفاع آنذاك الوزير فايز غصن وقوبل بمواقف شاجبة من قوى 14 أذار هي نفسها لم تتبدّل حتى هذه اللحظة وتساهم بشكل كبير بتبرير الإرهاب وإعاقة عمل الجيش وخصوصاً مديرية المخابرات.

وتعيد الأيام نفسها ويدخل الجيش اللبناني المعركة من جديد بمواجهة الإرهاب من عبرا الى طرابلس فعرسال، وربما في أماكن أخرى ضمن تعقيدات سياسية كبيرة تعيق الجيش عن القيام بواجباته.
في مقاربات سابقة تكلمنا حول تناقض قوى 14 أذار مع نفسها فيما يخص إدارة المعركة بمواجهة الإرهاب، حيث تعلن أنها مع الجيش فيما تضع كل العوائق في طريقه على أسس وقواعد سياسية مبتذلة تخدم أهدافها الضيقة على حساب الوطن ومصلحته، ومن ضمنها حملات التشكيك بالجيش والتصويب على دور مديرية المخابرات والمحكمة العسكرية.
من المؤكد أنّ هذه القوى وعلى رأسها تيار المستقبل تعيش إنفصام شخصية بالمعنى السياسي حيث نرى مواقف علنية متقدمة للرئيس سعد الحريري بخصوص معركة المواجهة مع الإرهابيين، بينما نرى شخصيات في تياره السياسي تقوم بحملات التحريض المذهبي والتشكيك بنزاهة الجيش وحياديته دون ذكر تفاصيل وتأكيدات تثبت إنحياز الجيش لفئة دون أخرى، ليبقى الكلام مندرجاً في العناوين ويخاطب الغرائز والأهواء التي باتت مناخاتها تهدّد الوطن بالإنزلاق الى الهاوية.

وممّا لا شك فيه أنّنا نعيش حالة إنقسام حاد حول الكثير من الملفّات المطروحة وأكثرها حدّةً الموقف من الأزمة السورية، إلّا أنّ منطق المصلحة الوطنية يحتّم على الجميع الذهاب بإتجاه الإتفاق على أهمية الجيش كضمانة ومنحه الثقة الفعلية لا الكلام المعسول على المنابر، وهذا يتمثّل في البدء بعمل توجيهي جاد وحقيقي بين قواعد قوى 14 أذار الشعبية وتحديداً تيّار المستقبل، فصيغة الأمن بالتراضي التي يتداولها البعض ليست الصيغة التي تمنح الجيش القوة والفاعلية وتحديداً في هذه المرحلة الحرجة، وإسقاطاً على التجربة العراقية رأينا جميعاً ما فعلته المحاصصة عندما امتدّت الى القوى الأمنية والجيش.

التردّد السياسي لقوى 14 أذار لا يقلّ خطورةً عن عمل المجموعات الإرهابية، حيث تشكّل بعض المواقف تبسيطاً وتسخيفاً للخطر الإرهابي فيما تشكّل بعض المواقف الأخرى تبريراً غير مباشر، في حين أنّ البعض لا يتوانى عن صب الزيت على النار ويجاهر بولائه للفكر التكفيري والإرهابي وهو ما يستلزم مواقف معلنة من المرجعيات الدينية والسياسية لرفع الغطاء عن البعض حتى لا يتحولوا من ظاهرة الى حالة.
أمر آخر يجب أن يتم حسمه وبسرعة وهو تجهيز الجيش اللبناني بما يلزم من سلاح وعتاد بمنطق الضرورة والمصلحة وليس إنطلاقاً من التجاذبات والمواقف السياسية، فمن خلال المتابعة والمعلومات يبدو أنّ موضوع الهبتين السعوديتين لن يسلك طريقه الى التحقيق قريباً ودونه أشهر طويلة على ما يبدو، وإن لم يكن الأمر مرتبطاً بالمعيقات السياسية فهناك العديد من المسائل التقنية وعلى رأسها مسألة التدريب على أسلحة ليست بحوزة الجيش أو هي بحوزته ولكنها تحتاج الى تدريب ضباط وضباط صف إضافيين، وتحديداً ما يحكى عن طائرات سوبر توكانو وحوامات الغازيل، في حين أنّ الهبة الإيرانية تتضمن أسلحة ومعدات يمكن استيعابها من خلال دورات لا تتجاوز الـ15 يوماً وبشكل أقصى شهراً واحداً.

في ظل تسارع الأحداث والتي ربما تحمل الكثير من المفاجآت لا يمكننا أن نترك الجيش اللبناني بين نار الإستنزاف وعدم الحسم، وعلى الجميع حزم أمرهم بإتجاه الحسم حتى لا تكون الكلفة أعلى ثمناً على الجيش والوطن.