مشاهدات 2.. بقلم: فادي برهان

مشاهدات 2.. بقلم: فادي برهان

تحليل وآراء

الخميس، ٢٤ يوليو ٢٠١٤

حصل أحد طلاب الثانوية العامة على معدل عال خوّله التسجيل في كلية الطب، وفي أول أيام السنة الدراسية استيقظ ذاك الطالب مبكراً نشيطاً وتوجه إلى كليته مفعماً بالطموح يرسم بخطواته مستقبله الذي يراه أمام عينيه.
 وبعد أن أنهى يومه الأول باستكمال التسجيل وشراء الكتب ودفع بعض الرسوم، عاد إلى قريته التي يعتز بها حاملاً بيمينه كتبه وثوبه الأبيض الذي غالباً ما يرتديه الأطباء، وعند وصوله إلى مدخل القرية فوجئ بأهالي القرية وهم يرحبون به ويسلمون عليه وينادونه (الدكتور) كباراً وصغاراً..شيباً وشباباً.. أصدقاؤه ورفاقه..حتى خصومه.. كلهم اعترفوا له بأنه طبيب القرية الأوحد دون أن يتلقى درساً واحداً، ودون أن يلم بأدنى معارف الطب، فهو وفي يومه الأول لم يستطع إلا أن يتعرف على بعض معالم العالم الجديد الذي سيدخله طالباً ويتخرج منه طبيباً، ولكن لم يترك له أهالي القرية الخيار فهو الطبيب بجدارة، وليس هناك أي احتمال للرسوب أو الفشل فبمجرد أن دخل هذا الشاب إلى كلية الطب ارتسمت في أذهان الأهالي في محيطه الاجتماعي صورته كطبيب ناجح في عيادته يستقبل أهله وأبناء مجتمعه ليداويهم ويعطف عليهم ويحترمهم ويؤدي واجبه تجاههم..
هذا الدفع الطامح الذي اُعتبر حافزاً إيجابياً ورافعة نفسية استطاعت أن تنقل هذا الشاب من طبيب بالقوة إلى طبيب بالفعل شكل عبر سنوات الدراسة على الرغم من قسوتها عاملاً ترغيبياً مهماً للغاية في حياة الطبيب اليافع والذي ما لبث أن جسد الصورة التي ارتسمت في أذهان وعقول أهالي قريته وكان نموذجاً للطبيب الرحيم الذي يبذل كل طاقاته وإمكانياته في سبيل أبناء لحمته الذين تربى وعاش بينهم.
وفي المقابل كان الطبيب الطاعن في السن والذي ضحى بكل سنيِّ حياته في سبيل أبناء بلدته يداويهم ويخدمهم ويبذل قصارى جهده ليرضيهم، وعلى الرغم من ذكائه وعبقريته ومهاراته في الطب وعلمه الواسع ومعرفته الوفيرة بكل ما يتعلق باختصاصه، كان وبكل بساطة يوصف ومن قبل أتفه شخص في بلدته بأنه طبيب أحمق لا يفقه الطب ولا يعي الدواء، ولذلك قلّما رآه الناس منشرحاً بل كان يقضي أغلب أوقاته محبطاً كئيباً يتفكر في أحوال الناس ويتأمل تفكيرهم الضحل الضعيف والمعدوم والذي لا يتقد إلا عندما يستغلونه لتحطيم الشخصيات ولتشويه سمعتها والتقليل من أهميتها ووضع العراقيل على طريق نجاحاتها ليكون الفشل سيد الموقف.
ربما يعتقد البعض إنه ليس من الضروري أن يكون المثال الذي سقناه قد حدث بعينه، لكن التجارب تثبت يوماً بعد يوم بأنه واقع وحقيقة نعيشها يومياً، فما أكثر ما أحبطت المجتمعات طاقاتها وكفاءاتها وقتلتها على مذبح الحسد والغيرة وسعت في الخراب والدمار كي لا يُثبت أحد وجوده على الساحة، وما أكثر ما رفعت مجتمعات أخرى من شأن أبنائها وشجعتهم وحضّتهم وحثّتهم ورغّبتهم نظرياً وعملياً بالنجاح وبتحقيق طموحاتهم وخوض غمار المجد بكل شجاعة وقوة كي لا يعيشوا على هامش الحياة متطفلين على ضفافها كالطحالب، فلماذا هذا الفرق بين بيئة وأخرى وبين مجتمع وآخر؟ فمن كتب سطراً عندهم سُمي شاعراً وأديباً ومن كتب ردحاً عندنا بقي جاهلاً وغريباً، ومن لمع وتألق عندنا حطّمناه وحاولنا بشتى الوسائل أن نغرقه بالإشاعات وتشويه السمعة، ومن فشل عندهم أحاطوه بالعناية والرعاية والاهتمام ليخرجوه من فشله إلى بر الأمان وليستعيد قواه من جديد ليخوض جولة جديدة، فما الفرق بيننا وبينهم؟.