«الغاز» يحكم تحالفات الحرب العالمية الثانية! .. بقلم: د. وفيق إبراهيم

«الغاز» يحكم تحالفات الحرب العالمية الثانية! .. بقلم: د. وفيق إبراهيم

تحليل وآراء

الأربعاء، ١٥ أغسطس ٢٠١٨

رائحة «الغاز» تزكمُ أنوف مخططي الاستراتيجيات الكبرى، وتسيطرُ على مفاصل الحرب الكونية التي يشنّها الأميركيون على العالم، غير مميّزين بين صديق تاريخي ومنافس. فما يهمهم هو رسم تحالفات لها وظيفةٌ حصرية:
السيطرة على أسواق الغاز إنتاجاً واستهلاكاً، لإطالة عمر الامبراطورية الاقتصادية الأميركية، وهذا يتطلب إعادة بناء تحالفات تتلاءم مع خطوط «الغاز» على مستويات، الإنتاج والمواصلات والأسواق.
وبعيداً عن الاتهامات السطحية التي تصف الرئيس الأميركي ترامب بالمعتوه، تجب قراءة الحرب الأميركية على أنها وسيلة دولة عميقة لإعادة ترويض العالم على إيقاع الإذعان لهيمنتها المطلقة.
وإذا كان الفحم الحجري مادة حروب القرنين 18 و19 فإن «النفط» احتكر الحروب العالمية الأولى والثانية في القرن والعشرين. وها هو «الغاز» يشكل مادة الحروب حالياً.. هناك بالطبع فارق في أدوات الحروب التقليدية التي اتسمت بضراوة هائلة في القتل والمعارك والصواريخ فإن ضحاياها عشرات ملايين القتلى ومثلهم من المهجرين والمنكوبين.
لكن حرب «الغاز» الأميركية الحالية مختلفة.. إنها قتل رحيم بمادة العقوبات الاقتصادية. تنسّق دولاً وتطيح بأنظمة بالتسبب في اندلاع اضطرابات داخلية نتيجة لعقوبات اقتصادية مفروضة. وذلك من دون إعلان حروب خارجية أو إطلاق نيران. فالعالم مليء بأسلحة دمار شامل يفرض توازناً دقيقاً، لذلك كان الاختراع الأميركي بإيقاع عقوبات اقتصادية على بلدان مستهدفة، لها أقوى من مفاعيل الحروب ومن دون وقوع ضحايا مباشرة.
لفهم خريطة الحرب الأميركية، يجب التمييز بين منتجين كبار للغاز وهم روسيا وإيران وقطر ونروج. إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية نفسها أكبر منتج للغاز الصخري العالي الكلفة وقدرته التنافسية قليلة.
وهناك الساحل السوري ببلدانه الثلاثة، سورية ولبنان وفلسطين المحتلة بالإضافة إلى مصر وقبرص وأذربيجان. وهذه بلدان لم يقتحم الغاز فيها الأسواق، لأنه في طور الاكتشاف والاستثمار.
ويدور أيضاً كلام عن السواحل البكر لأفريقيا بإمكاناتها الهائلة من النفط والغاز، لكن الصراع عليها لم يدخل حيّزاً تنفيذياً حتى الآن. ولجهة البلدان الكبيرة التي لا غاز فيها تأتي الصين في المقدمة، على الرغم من وجود غاز صخري فيها، بالإضافة إلى إمكانات هائلة جداً للنفط والغاز في قلب بحر الصين الجنوبي الذي تحاول الصين إلحاقه بها، وسط رفض أميركي كبير مسنود من البلدان المطلة على البحر.
هناك أيضاً من بين الدول الصناعية المحتاجة إلى الغاز والنفط بلدان الاتحاد الأوروبي والهند وتركيا وجنوب شرق آسيا واليابان وأستراليا وكندا.
أما البلدان الاستراتيجية التي تشكل مراكز استراتيجية لانتقال الغاز عبر الأنابيب من أراضيها، فتأتي تركيا في المقام الأول بما هي نقطة وصل بين الشرق الأوسط وروسيا مع أوروبا. فتستطيع بذلك نقل الغاز العربي من مراكز انتاجه في قطر والعراق إلى سورية فتركيا. وكذلك اتفقت مع روسيا على البدء ببناء أعظم خط أنابيب في العالم نورث ستريم لنقل الغاز من روسيا الدولة المنتجة له إلى الاتحاد الأوروبي وبحر البلطيق عبر أراضيها. كما أنها اتفقت مع اذربيجان على أنابيب للغاز تمرّ من تركيا إلى العالم.
ولن يصيب أحداً الذهول إذا ما اتفق الأتراك مع الإيرانيين على خطوط نقل للغاز الإيراني إلى العالم عبر أراضيهم.
فتبيّن أنّ أقوى بلدين في العالم في إنتاج الغاز هما روسيا الأولى وإيران الثانية متفقان مع تركيا خاصة أقوى موقع استراتيجي يربطهما بأهم مناطق استهلاك أوروبا دخلوا في معادلة تعاون مستقبلية، قد تؤدي إلى تغيير كبير في السياسات الدولية. علماً أنّ لدى إيران أكبر احتياطات غاز في العالم لم تدخل باب الاستثمار بعد حقول بارس .
يتبيّن بالاستنتاج أنّ تركيا تمتلك أهم مناطق دولية لعبور الطاقة في كل الاتجاهات وتليها سورية بالدور نفسه، إنما على المستوى الإقليمي وإذا ما رمينا بخريطة الحروب الأميركية على خرائط انتشار الغاز في العالم وخطوط مواصلاته، ومدى التطابق الحرفي الكبير بينهما، لاكتشفنا أنها حروب الغاز الأميركية من دون التعمق في التفكير.. فلا أحد يصدق أنّ الأميركيين الذين يتحضرون لغزو محيط الشمس ممتلكون مخزونات من أسلحة دمار شامل تكفي لتدمير الأرض عشرات المرات.. يخشون من صواريخ باليستية إيرانية هي أشبه بدمى أطفال قياساً لإمكانات التدمير الأميركية والإسرائيلية والروسية والأوروبية.
وهل يصدق أحدٌ أنّ تركيا أصبحت بلداً مزعجاً لواشنطن حتى تعاقبها بسلسلة إجراءات اقتصادية أدت على الفور إلى انهيار العملة التركية بمعدل عشرين في المئة.. والتراجع مستمر إما إلى حدود انهيار نظام اردوغان بتطلعاته العثمانية، أو عودة تركيا الأطلسية صاغرة إلى الحضن الأميركي على أساس إلغاء اتفاقات الغاز بينها وبين روسيا وأذربيجان. والانسحاب من الاتفاقات مع الروس والإيرانيين في اتفاقات سوتشي وأستانة السورية وخلافه.
على مستوى روسيا، يبدو أنّ حرباً اقتصادية أميركية كبرى تتقدّم على مراحل وتنقسم إلى جزءين:
استهدافات للداخل الروسي بعقوبات اقتصادية تنال من بعض حركة القطاعات الاقتصادية فيها، واستهداف علاقاتها بكل من الصين من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية على الرغم من وجود ميل أميركي إلى إيلاء موسكو بعضاً من النفوذ الدولي لكسب صمتها.. لكن الحجم الضخم للغاز الروسي يثير قلقاً أميركياً كبيراً.. لأن العلاقات الاقتصادية تؤدي حكماً إلى بناء آليات سياسية رائعة تصبح مع الوقت أحلافاً ومحاور. خصوصاً أنّ روسيا في أوروبا وآسيا وعلى مقربة من أعظم بلدانها وتجاور الصين وليست بعيدة عن الهند.. مقابل قارة أميركية بعيدة، ونائية.
ماذا عن الصين؟ إنها واحدة من الاستهدافات الأميركية الاقتصادية، لأنها المنافس الفعلي لواشنطن في تراتبيات القوى العالمية اقتصادياً.. لذلك فهي معرضة لعقوبات في ما تستورده من مواد أولية، أميركية، وبذلك تصبح السلع الصينية المتسمة بالأسعار الرخيصة، غالية وصعبة التسويق.. هذا بالإضافة إلى أنّ الصين أكبر مستهلك عالمي للغاز، وهي سمة تعززُ من علاقاتها السياسية بروسيا أكبر منتج للغاز والتي ترتبط بأكبر اتفاقية تصدير للغاز معها، بما يشمل علاقات اقتصادية عامة بين البلدين، لن تتوانى عن التصدي الثنائي للنفوذ الأميركي.
وتشمل الحرب الأميركية، حليفها الاتحاد الأوروبي في محاولة جهورة وصريحة لمنع بلدانه من شراء الغاز من روسيا، وتفضيل استيراد هذه المادة من الغاز الصخري الأميركي حصراً.
لذلك فإن المانيا التي تستورد القسم الأكبر من الغاز من روسيا، تتلقى ضربات أميركية موجعة، لثنيها عن التعامل مع الروس. لكن السيدة ميركل تمارس سياسة اقتصادية براجماتية لا تستند على الولاء الايديولوجي. وتعتبر أنّ روسيا جارة لها والغاز فيها أرخص وتحتاج هي بدورها إلى سلع ألمانية يمكن توريدها بسرعة، كذلك فرنسا ومعظم دول القارة العجوز بجناحها الغربي، تجنح لتأييد منطق الاستقلالية الالمانية التي لم تعد ترى في روسيا عدواً يريد نشر الايديولوجية الشيوعية، أصبحت روسيا بنظر الأوروبيين دولة براجماتية ذات نظام رأسمالي يبحث عن الأسواق بائعاً ومشترياً وليس أكثر.
بالمحصلة، يتبيّن التطابق بين الحروب الاقتصادية الأميركية المندلعة حالياً والمناطق التي تفوح منها رائحة الطاقة المقبلة أي الغاز، فحتى استهداف قطر من حلف سعودي ـ إماراتي، ما كان يمكن أنّ يتمّ لولا غض الطرف الأميركي، الذي استغل الأمر لتوسيع قاعدة العديد وبناء مساكن لآلاف الجنود الأميركيين حولها، وما انسحاب شركة توتال من حقول النفط والغاز المشتركة في الخليج بين الدوحة وطهران، إلا محاولة أميركية لمنع قطر من التعمّق في بناء مصالح غازية مشتركة مع إيران، كذلك فإن عقوبات هذه الحرب تستهدف غاز روسيا واقتصاد الصين والاستقلالية الاقتصادية الأوروبية وطموحات تركيا. ولن تتأخر عن استهداف النروج المصدرة للغاز وإصابة الهند البلد المستورد له.
وهكذا فإن حروب النمط الجديد الأميركية تحاول إعادة رسم التحالفات السياسية في العالم على وقع دخول الغاز بديلاً مركزياً من النفط.. وهي حروب في طور التصاعد تريد أميركا منها إعادة رسم توازنات سياسية جديدة لها رائحة تزكم الأنوف، لكنها تملأ الاحتياطات النقدية بدولارات جديدة تعيد بعث الامبراطورية الاقتصادية الأميركية.