الأزمة السورية في هزيعها الأخير!.. بقلم: عدنان بدر حلو

الأزمة السورية في هزيعها الأخير!.. بقلم: عدنان بدر حلو

تحليل وآراء

الثلاثاء، ١٢ يونيو ٢٠١٨

ما من شك في أن استعادة الدولة السورية السيطرة على عموم المناطق الداخلية من التنظيمات المسلحة التي انكفأت إلى مناطق حدودية تحظى بحمايات دولية (تركيا في الشمال والولايات المتحدة في الشرق والنفوذ الأميركي - الأردني - الإسرائيلي في الجنوب) تشكّل انتقالاً إلى مرحلة جديدة ومختلفة في الأزمة السورية لا يمكن أن يتم التعامل معها بالوسائل والأساليب التي استخدمت في المناطق الداخلية! (التفاوض بضغط الحصار والضغط العسكري المباشر).
لكن لا يمكن القول بإمكانية الوصول إلى حلٍّ سياسي للأزمة دون توفر صيغ ما للتعامل مع هذا الواقع الجديد، بما يؤدي إلى «تحرير» تلك المناطق وإعادة دمجها في الخريطة الوطنية السورية، وهو أمر لا يمكن توقع حدوثه دون الدخول في مفاوضات دولية جدية تشارك فيها هذه الدول الأجنبية الراعية لوجود المسلحين على الأراضي السورية! فعلى أي أساس (أو مجموعة أسس) يمكن أن تنطلق مثل هذه المفاوضات؟
لا يمكن الدخول في مضمون الإجابة عن هذا السؤال دون وضع اليد على مساحة استراتيجية يمكن أن تشكل منطقة تقاطع لمصالح هذه القوى الدولية (أو الأساسية منها على الأقل)!
 
في البدء كان الصدام
عندما وضعت الولايات المتحدة (وضمناً إسرائيل) يدها على «الثورة السورية» كان هدفهما الاستراتيجي هو تدمير سوريا (بعد تدمير العراق) ومحاصرة حزب الله في لبنان ودفع إيران ومحاصرتها وإبعادها آلاف الكيلومترات عن المنطقة، وفتح أبواب المشرق العربي والخليج أمام هيمنة مطلقة للنفوذ الأميركي - الصهيوني. كما يتم في هذا السياق نشر حالة إسلامية وهابية عاصفة على امتداد الشرق الإسلامي وصولاً إلى الدول السوفياتية السابقة في جنوب روسيا وغرب الصين بما يهدد الأوضاع الداخلية للدولتين اللتين تعتبران مصدر التحدي المباشر للهيمنة 
الأميركية على العالم!
وعندما تدخلت القوى الحليفة للنظام (حزب الله وإيران ثم روسيا) كان الهدف الاستراتيجي لهذه القوى معاكساً تماماً لما سبق، أي منع الولايات المتحدة، ومن يلوذ بها من دول وقوى، من تحقيق أهدافها المذكورة فيما تقدم: منع سقوط النظام وانهيار الدولة السورية. وهذا ما تم تحقيقه فعلاً خلال السنوات الثلاث الأخيرة. لكن تحقيق هذا الهدف (للمحور السوري - الإيراني - الروسي) لم يؤدِّ فقط إلى منع المحور الأول من تحقيق أهدافه، بل أكثر من ذلك؛ خلق واقعاً استراتيجياً جديداً ومختلفاً جذرياً عما كانت عليه الأمور قبل 2011:
1- الجيش السوري الذي كان يعاني من أوضاع رثة (بكل معنى الكلمة) في ظروف ما قبل 2011 وما كان يطغى عليها من استبداد وفساد وتفلّت خرج من الأحداث الحالية بصورة مختلفة كلياً وجذرياً. صحيح أنه خسر كثيراً من عدته وعديده بالانشقاقات الواسعة التي حدثت في صفوفه وعمليات النهب التي تعرضت لها مخازنه، وخسر كثيراً أيضاً بما قدمه من تضحيات بشرية كبيرة جداً في ميادين القتال (يتحدث البعض عن أرقام تتجاوز مئة وخمسين ألفاً)، لكنه اكتسب في المقابل مهارات فنية وعملية وتنظيمية وقتالية ما كان يمكن لها أن تتحقق خارج ظروف المعارك الكبيرة التي خاضها على امتداد هذه السنوات وعلى اتساع الأراضي السورية. كما حظي بعملية تحديث وإعادة تسليح وتدريب وتنظيم بإشراف خبرات روسية متقدمة لم يكن بالإمكان حدوثها خارج نطاق هذه المعركة. وهكذا تحول بهذه المواصفات إلى قوة عسكرية مؤهلة يحسب لها ألف حساب بالمقارنة مع أوضاعه قبل الأزمة، بل أكثر من ذلك؛ بات يشكل، بهيكليته الجدية ومواصفاته المذكورة أساساً صالحاً لبنية وطنية جديدة في الدولة السورية.
 
2- انتقل حزب الله، الذي كان يراد له أن يتقوقع محاصراً في الجنوب اللبناني معزولاً عن عمقه في سوريا وشريانه الحيوي مع إيران، إلى قوة عسكرية فعالة على المستوى الإقليمي وقد تطورت لديه مهارات تجاوزت بما لا يقاس حالته قبل الأحداث ولا سيما على صعيد المواءمة قتالياً وفنياً بين حرب العصابات والحرب النظامية، كما تحقق له انتشاراً متواصلاً جغرافياً يمتد من جنوب لبنان إلى العمق العراقي شرقاً والحدود السورية مع فلسطين المحتلة والأردن جنوباً.
3- وبدلاً من أن تنتهي الأحداث بإيران مرتدة مُبعَدة آلاف الأميال عن بلاد الشام، انتهت الأمور بوجود سياسي وعسكري واقتصادي متواصل من طهران إلى مياه البحر الأبيض المتوسط!
4- أما روسيا التي كانت مهددة بحصار شواطئها الرئيسية على البحر الأسود (مع أحداث أوكرانيا) وبعاصفة إسلاموية وهابية في جوارها، بل في عقر دارها (ثمة ما يزيد عن عشرين مليون مسلم في روسيا الاتحادية نفسها)، فقد حققت إنجازات لا حدود لها جراء انخراطها في الحرب السورية: 
• لأول مرة في تاريخ روسيا (القيصرية والسوفييتية والبوتينية) يتوفر لها هذا الحضور العسكري الجوي والبحري والبري امتداداً من إيران إلى المياه الدافئة في المتوسط.
• تحولت من شاهد زور في مساعي تسوية أزمات المنطقة إلى فاعل رئيسي فيها بدور معترف به من جميع الأطراف.
• فرضت تغييراً سياسياً على المستوى الدولي لم يسبق أن تحقق منذ انفردت الولايات المتحدة بموقع القوة الأعظم إثر انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينيات القرن الماضي.
هكذا، تحولت الأحداث السورية من فرصة لإنجاز الهيمنة الأميركية - الصهيونية على المنطقة والعالم إلى انقلاب كبير على هذه الهيمنة. فهل يمكن لقوى هذا المحور أن تتقبل انقلاب مخططها إلى نقيضه؟ هذه هي النقطة الاستراتيجية المفصلية التي تقف الأزمة السورية أمامها الآن:
قد تسلم أميركا وإسرائيل (على مضض طبعاً) بعدم تحقيق الآمال الكبيرة التي كانتا تعلقانها على مسار الأحداث السورية، لكن أن ينقلب الأمر إلى نقيضه تماماً ويتحول إلى هزيمة لهما وتغيير جذري في موازين القوى لا يهدد مصالح واشنطن وتل أبيب فحسب، بل يشكل أيضاً تهديداً وجودياً للكيان الصهيوني نفسه، فهذا أمر لا يمكن التسليم به ولا بد من السعي لاحتوائه بأي حال!
 
البدائل الأميركية - الصهيونية
من الواضح أن العودة إلى الخيار الأول (تدمير سوريا والسيطرة على المنطقة) لم يعد متاحاً، فما هو الممكن؟ العمل بكل الوسائل والسبل على تقزيم انتصارات الطرف الآخر واحتوائها ضمن أدنى الحدود الممكنة.
بين الضغوط والإغراءات:
1- الضغط على دمشق عبر المناطق الحدودية المسيطر عليها واستثمار تلك السيطرة لفرض شروط وتنازلات سياسية وأمنية وبنيوية قبل السماح بعودة تلك المناطق إلى حضن الدولة السورية.
2- استثمار الحاجة إلى إعادة الإعمار من أجل التسلل عبر الكثير من الأطراف (لا سيما المقاولون ورجال الأعمال والقطاع الخاص والمصارف الإقليمية والدولية وكذلك الدول الخليجية التي لا تتحرك إلا بأوامر من واشنطن).
3- تصعيد الضغوط الدولية والإقليمية والداخلية على حزب الله في لبنان (العقوبات المصرفية ولوائح الإرهاب، والدعم المالي والسياسي للقوى المعادية للحزب وغير ذلك) حتى التلويح بالحرب المباشرة على لبنان!
4- رفع مستوى الضغط الأميركي على إيران إلى أعلى مستوى ممكن كالانسحاب من الاتفاق النووي وفرض عقوبات جديدة على طهران وعلى الشركات الأوروبية التي تتعامل معها.
5- تجديد الضغوط على روسيا والسعي لاستثمار النفوذ الصهيوني من أجل التأثير في قرارات موسكو سواء بالمساعي المباشرة المتكررة لبينامين نتنياهو والوزير أفيدور ليبرمان، أم بالتهديدات غير المباشرة من اللوبي الصهيوني في الكونغرس والإدارة الأميركية.
ما من شك في أن هذه الضغوط مؤثرة بالفعل (وإن كان تأثيرها متفاوتاً هنا وهناك) لكنها في جميع الأحوال لا ترقى إلى مستوى إحداث تغيير استراتيجي لما وصلت إليه موازين القوى على الساحة السورية وامتداداتها الإقليمية والدولية. إن أقصى ما يمكن الأمل في تحقيقه هو الاحتواء، بصورة شديدة الخصوصية، في ما يتعلق بالخطر الوجودي على الكيان الصهيوني، وهو أمر لم يعد بالإمكان تحقيقه إلا بالتلويح بتسوية دولية إقليمية تربط ما بين الأزمة السورية والأزمة في المنطقة، على نحو يمكن أن تتقاطع فيه مصالح جميع الأطراف:
• مقابل السماح بعودة المناطق الحدودية إلى كنف الدولة السورية ودمج أعداد كبيرة من المقاتلين السوريين في صفوف القوات المسلحة السورية بأطرها التنظيمية الجديدة وعلى قواعد وطنية صارمة، يجري استئناف المفاوضات السورية - الإسرائيلية من أجل التسوية انطلاقاً من النقطة التي كانت قد توقفت عندها في المراحل الماضية.
• يجري البحث في توفير حل للمشكلات الحدودية البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل يسحب ذريعة احتفاظ حزب الله بسلاحه، ما يوفر مناخاً ملائماً للتوصل إلى استراتيجية دفاعية جديدة في لبنان تتضمن احتواء الدولة لذلك السلاح بطريقة ما (يلاحظ هنا ما كشفه الرئيس نبيه بري قبل أيام حول الرسالة الأميركية المفاجئة بشأن استعداد إسرائيل للتفاوض حول الحدود البحرية والبرية، بما في ذلك موضوع مزارع شبعا!).
• الوصول بالتصعيد الأميركي مع إيران إلى تسوية تسمح بالربط الجغرافي والاقتصادي بين طهران والمتوسط مقابل اندماج إيران في عملية السلام مع إسرائيل، خاصة في الوقت الذي تدخل فيه الدول العربية أفواجاً في تلك التسوية (علماً بأن التهديدات بالحرب مع إيران لا معنى لها بسبب هشاشة المصالح الأميركية في المنطقة تجاه مخاطر مثل تلك الحرب، كمضيق هرمز والمنشآت النفطية الحساسة في الخليج والمنطقة الشرقية من السعودية التي تقع جميعها تحت مرمى حجر من الأراضي الإيرانية)!
• الدخول الجدي في عملية تسوية للأزمة الأوكرانية تحرر روسيا من أعبائها ومن العقوبات الدولية التي ترتبت عليها (يلاحظ في هذا المجال أن مجلس الأمن الدولي قد توصل في الخامس من حزيران الجاري، لأول مرة منذ وقت طويل، إلى بيان تبناه بالإجماع يطالب الحكومة الأوكرانية بسحب الأسلحة الثقيلة من المناطق الشرقية وتجديد الحوار بناء على اتفاقات مينسك (شباط 2015) التي كان الغرب قد انقلب عليها بعد يوم واحد من إنجازها، ورفض مذذاك العودة إلى ما تحتويه من تفاهمات!).
في هذه المساحة من التهديدات والضغوط والإغراءات، تقف حالياً مآلات الأزمة السورية وربما أزمة المنطقة بكاملها! فهل تصل هذه المآلات إلى نهاياتها؟ متى؟ وكيف؟
* كاتب سوري