«غصن الزيتون» التركي اليابس.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

«غصن الزيتون» التركي اليابس.. بقلم: عبد المنعم علي عيسى

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٣ يناير ٢٠١٨

أن تطلق أنقرة على عمليتها العسكرية التي أعلنت عنها رسمياً يوم السبت الماضي اسماً جديداً من دون أن تكون ملحقة بعملية «درع الفرات» التي انطلقت أواخر آب 2016، فذاك أمر يعني أن لها، أي للعملية الجديدة، تفاهماتها الخاصة، وكذا تفاصيلها المختلفة التي لا تتساوق مع نظائرها لدى هذه الأخيرة.
لم تعر أنقرة اهتماماً على امتداد عشرة أيام لمواقف ومطالب العديد من القوى والدول الفاعلة في الأزمة السورية، وإنما قررت «قلع شوكها بيديها» كما أعلنت، فالوجود الكردي المسلح على حدودها الجنوبية بات يتخذ شكل التهديد المباشر لأمنها القومي وهو ما استدعى استحضار حتى التاريخ لتجنيده في المعركة التي أطلق عليها اسم «غصن الزيتون»، فقبيل أن يبدأ رمي التمهيد المدفعي الذي يسبق قيام أي جيش بهجوم يريد منه تحقيق المهام الموكلة إليه كان الرئيس التركي قد نفض غبار السنين عن ميثاق أجداده الوطني مستنجداً بالتاريخ مادام الحاضر عاجزاً عن أن يفعل، تقول التقارير: إن المدفعية التركية كانت قد بدأت قصفها المكثف على مواقع «وحدات حماية الشعب» الكردية في محيط عفرين ومنبج يوم الخامس عشر من الشهر الجاري أي بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على إعلان المتحدث باسم التحالف الأميركي العقيد ريان ديلون عن عزم بلاده إنشاء جيش قوامه 30 ألف مقاتل لحماية الحدود من «هجمات المتطرفين»، أما إطلاق العملية البرية والجوية فقد جاء هو الآخر بعد أربع وعشرين ساعة من الإعلان عن تخريج الدفعة الأولى من ذلك الجيش يوم الجمعة الماضي في مبنى «صوامع صباح الخير» بقوام 500 مقاتل كانوا قد أقسموا اليمين أمام ضباط أميركيين على حماية «حدود وطنهم».
تقول التصريحات: إن كلاً من واشنطن وموسكو قد طالبتا أنقرة بالتروي وعدم القيام بعمل عسكري يستهدف الأكراد في منبج وعفرين، على الرغم من أن كلاً منهما كان قد أعطى ضوءه الأخضر لها بطريقته الخاصة، فقد خرج ريان ديلون من جديد الأربعاء الماضي ليقول: إن «منطقة عفرين هي خارج نطاق مسؤولياتنا» في الوقت الذي تعهدت فيه واشنطن بعدم تعطيل «جي بي إس» الذي من شأنه شل حركة القوات التركية تماماً كما فعلت لمرات سابقة عديدة، أما موسكو فقد أعلنت عن سحب جنودها من عفرين بعدما تأكد لها الهجوم التركي البري، كما أعلنت وزارة الدفاع الروسية يوم السبت الماضي، بعد أن كانت قد أدخلتهم شهر آذار الماضي في مؤشر هو أقرب لأن يفهم على أنه إسدال حماية روسية على المدينة.
ما انفكت أنقرة منذ أسابيع ترقب بقلق تآكل «حصتها» السورية بدءاً من الهجوم الذي يشنه الجيش السوري على إدلب بهدف إخراج جبهة النصرة منها، في الوقت الذي بدا فيه الأكراد وكأنهم ماضون في رسم خرائط كيانهم بريشة أميركية متناسين أن الخرائط الملونة لا تقيم دولاً ولا هي تحميها، وما يقيمها ويحميها معطيات أخرى يعمد الأكراد إلى تجاهلها وربما كانوا مجبرين على ذلك التجاهل فـ«من يعط يأمر»، وفي خلفيات السلوكيين الأميركي والروسي يبدو أن موسكو فضلت «رشوة» أنقرة لتأمين حضور تركي فاعل في مؤتمر سوتشي المقبل على حين الآمال الروسية هنا تصل إلى حدود نجاح الأتراك في جر من «يمونون» عليهم، أما واشنطن فربما أيقنت أن موضوع عفرين يبدو مصيرياً للأتراك فالمدينة من شأنها أن تشكل صلة وصل بين شطري «روج آفا» الصحراوي والبحري، وفي حينها ستشكل «الجغرافيا الشريطية» على امتداد الحدود التركية بدءاً من أقصى الشرق السوري عند بلدة «عين ديوار» وانتهاءً بأقصى الغرب عند بلدة «السمراء» على البحر المتوسط كياناً قادراً على أن يكون بديلاً للأميركيين عن موطئ القدم الإستراتيجية الأميركية في تركيا، وفي الآن ذاته سيكون، ذلك الكيان، «عيناً» لتل أبيب على هذي الأخيرة في حمأة صراع إقليمي وصل ذروته إلى تعديل ميزان القوى القائم، فهذي الأخيرة ترى نفسها في حالة صراع مستميت مع كل من إيران وتركيا القوتين اللتين تنافسانها الزعامة الإقليمية وتهددان مصالحها، ولذا فإن مجرد «تبرعم» تلك «الوصلة» أو تفتح تلك «العين» من شأنه أن تكون له تداعيات خطرة على الداخل التركي وعلى قواه وأحزابه وسياساته، فهو سيظهر عملية «درع الفرات» على أنها حرب على مدى عامين من أجل لا شيء، وربما كان هذا الأمر الأخير في صلب حسابات أردوغان الداخلية ففشل تركيا على مدى سبع سنين في تحقيق أي هدف من الأهداف التي تجهد السياسة والجيش التركيان لأجل تحقيقها هو أمر يعرض هذا الأخير للمساءلة والحساب وربما كان ذلك على الطريقة التي تمت بها محاسبة رئيس الوزراء التركي الأسبق عدنان مندريس الذي أعدم في العام 1961 بتهمة التآمر على قلب النظام العلماني والتأسيس لقيام دولة إسلامية.
تأخرت أنقرة كثيراً قبل أن تدرك أن كل ما يجري في سورية والعراق ليس إلا مرحلة أولى من المشروع الأميركي المعتمد في المنطقة، وأن مرحلة هذا الأخير الثانية ستكون هي مادته وروحه وملعبه، والغريب أنه كان من الواضح منذ البدايات أن أنقرة ترى أن ما يجري على حدودها الجنوبية والشرقية هو أمر يصب في مصلحتها أو أن بالإمكان حصر النيران داخل حدود اشتعالها العراقية والسورية، وفي السياق كان الخطأ يستجر خطأ آخر أكبر وأخطر لتعطي بعض المآلات سياسات تبدو وكأنها غير معقولة أو من الصعب تبريرها، وإلا فكيف يمكن لأردوغان أن يظن أن المصلحة التركية العليا تتحقق عبر قيام كيان كردي في الشمال والشمال الشرقي السوري شريطة أن يتوقف تمدده عند الحدود الشرقية لبلدة عفرين وكذا شريطة أن يوافق «الكل» على ترحيل الأكراد الأتراك ليصبحوا من سكان ذلك الكيان الوليد وبذا يكون فتيل الانفجار قد أبطل مفعوله داخل الجسد التركي؟ ألا ينضوي ذلك التصور على تبسيط غير معقول للأزمة؟ فالحسابات التركية كان من الضروري مثلما استنجدت بالتاريخ لحظة استدعاء «الميثاق الوطني التركي» كان يجب عليها أن تستنجد به لحظة اتخاذ قرار الموافقة على ذلك الكيان المزعوم وعندها ستجد أن عمق الأزمة الكردية كلها إنما ينبع ويصب داخل الأراضي التركية، والأكراد، إن هم وافقوا على رحيلهم عن ديارهم في تركيا فإن ذلك سيكون قبولاً بأن يكونوا «مهاجرين» لن يلبثوا أن يعاودوا المطالبة بعودتهم إلى أرضهم وحقوقهم السليبة التي اغتصبها الأتراك إلا إذا كان أردوغان ينظر إلى حل للأزمة يؤدي إلى استقرار عهده هو وليحترق من يخلفه، ثم أن قرار الرحيل من عدمه هو أمر لا تملكه القيادة أو الشارع الكردي في تركيا وهو موجود في جبال قنديل هناك في شمالي العراق وعند هذي الأخيرة فقط ترتسم الخرائط وتتحدد المهام وتتقرر السياسات.
اليوم وبعد مضي أيام على انطلاق «غصن الزيتون» المؤكد هو أن أنقرة قد حصلت على ضوء أخضر أميركي وروسي بل ضوء أصفر إيراني أيضاً وهو يقضي باقتلاع «وحدات الحماية» الكردية من عفرين ومنبج وملاحقتها لحين عبورها إلى الضفة الشرقية لنهر الفرات، وعلى الرغم من أن ما تقوم به تركيا هو اعتداء سافر على الشعب والأرض السورية، إلا أن الأكراد هم من يتحمل مسؤولية التصعيد الأخير وهذا بالتأكيد ليس تبريراً لما تقوم به تركيا ولا تجاهلاً لمطامعها، إلا أنه يمكن أن يكون تبصراً في سلوكيات ما انفك يمارسها الأكراد وهي لن تجر عليهم إلا الدمار والتشرد، والحكمة كانت تقضي أن يشرئب الأكراد السوريون لينظروا إلى ما يجري وراء حدود بلادهم، فخطأ الحسابات لدى الأكراد العراقيين جعلهم الآن في وضعية يطالبون فيها بحقوق وامتيازات كان المعروض عليهم منها هو أكبر بكثير مما قبل كركوك 16 تشرين الأول 2017.