لماذا ابتدأ الضغط الأميركي لحلّ الأزمة الخليجية؟.. بقلم: د.وفيق إبراهيم

لماذا ابتدأ الضغط الأميركي لحلّ الأزمة الخليجية؟.. بقلم: د.وفيق إبراهيم

تحليل وآراء

الجمعة، ١٨ أغسطس ٢٠١٧

يبدو أنّ مهلة الثلاثة أشهر التي وجدها مستشار الأمن القومي الأميركي هربرت ماكماستر ضروريّة لحلّ الأزمة الخليجية شارفت على الاستنفاد، على وقع بدء تراجعات سعودية أعلنت مؤخّراً عن استعداد الرياض لعدم مقاطعة شركات أميركية وغربية تعمل في قطر التي يُفترض أنّها محاصرة.

هناك مؤشر آخر على مباشرة السياسة الأميركية دورها في إعادة «ضبط الخليج»، تظهر في تصريح «أبويّ» لوزير خارجية واشنطن تيلرسون، انتقد فيه السعودية لأنّها تهاجم «الملحدين والشيعة» و«تستظلّ من دون وجه حق بقانون مكافحة الإرهاب»، ولم يستثنِ الملكية في البحرين التي أدان سياساتها التاريخية وقتلها للأقليات الشيعية فيها، متناولاً الوضع المأساوي للنساء في الخليج، اللواتي يحتجن إلى مزيد من الحرية… ما يُلاحظ على الفور من هذا التحوّل الأميركي التدريجي، التشابه بين الأزمة الخليجية والمسرحيات التي تبدأ بالتأسيس لمشكلة وتركيب عقدة يجد لها البطل حلاً بعد معاناة.

فهل بدأ البطل الأميركي بإيجاد حلّ لأزمة الخليج ومصر مع قطر؟ ولماذا؟!

لا بدّ في المنطلق من وضع هذه الأزمة في نطاقها الإقليمي، فقبل أربع سنوات شكّلت دول الخليج محوراً استعمل إمكاناته لدعم «ثورات سوريّة وعراقيّة ويمنية وتونسيّة»، تبيّن بعد انطلاقها بقليل أنّها ليست إلا منظمّات إرهابية صدّقت أنّ بوسعها الاستفادة من «أمميّة الإسلام» لإنشاء خلافة على أنقاض «سايكس بيكو»، قابلة للامتداد إلى العالم الإسلامي بكامله، وحظي هذا المشروع بموافقة أميركية تتطلّب الموضوعية القول إنّها «موافقة» على طريقة «غضّ الطرف»، وتركت شؤون التعاطي المباشر للأتراك والسعوديين والقطريين والجمعيات الإسلامية في الكويت والإمارات، مع السماح «بإلقاء متعمّد» لأسلحة وذخائر أميركية يجري إنزالها بين الحين والآخر في مناطق المنظمّات الإرهابية عن طريق الخطأ، كما يتذرّع الأميركيّون كدأبهم…

ولدى المراقبين دلائل أخرى على الدعم الأميركي، ترتبط بتصدير النفط من حقول سوريّة وعراقيّة عبر تركيا تحت إشراف الأقمار الاصطناعية، بالإضافة إلى التحويلات المصرفيّة المنتظمة التي لا تزال تتمّ تحت إشراف المؤسسات المصرفية الدولية والأميركية والأوروبيّة باتجاه منظّمات التكفير ومنها.

أمّا السياق الإقليمي الثاني، فيتعلّق بتمكّن المحور السوري الروسي الإيراني من إنجاز انتصارات دحرت الإرهاب إلى زوايا ضيّقة في سورية والعراق، وهذا يعني باللغة السياسية تعثّر المشروع الأميركي، الذي لن ترتدّ انعكاساته على الولايات المتحدة الأميركية فقط، بل على أدواتها العاملة على الأرض. وإذا كان بإمكان واشنطن الدفع باتّجاه تفاهمات مع روسيا عن طريق الإقرار بمصالحها بعد نحو 26 عاماً من استبعادها من تفاعلات العلاقات الدوليّة، والتهام واشنطن معظم الفضاءات السوفياتية السابقة، فإّن دول الإقليم المتورّطة ليس لديها هامش مناورة، لأنها لا تمتلك فائض قوّة كالأميركيين. فهي إمّا أن تعترف بالهزيمة فتعود إلى داخل حدودها للدفاع عنها، أو أن تخسر كلّ شيء إذا كابرت ولم تعترف بالمستجدّات العسكريّة.

لذلك «هبطت» الأزمة الخليجية «وسيلة عبقرية» لمفتعليها، الأميركيين والسعوديّين، فواشنطن أرادت مهلة زمنيّة لإعادة تركيب أدوات الحركة الجديدة في «الشرق الأوسط»، من دون ايّ إزعاج من قِبل حلفائها الأتراك والخليجيين الذين كانوا يضغطون باتجاه تدخّل أميركي عسكري مباشر.

السعوديّون بدورهم «افتعلوها» لإعادة تركيب زعامة خليجية لهم، تقيهم ارتدادات الهزائم في سورية والعراق، والمراوحة في اليمن، والذّعر على الأوضاع في البحرين والخشية من الدور التركي المنافس في شبه جزيرة العرب.

هذه هي الوسائل التي ضبطت فيها واشنطن تحالفاتها التاريخية: لوّحت للأتراك بمشروع «إمبراطورية كردية» تمتدّ من إيران إلى العراق فسورية، لتشمل قسماً كبيراً من تركيا على المستويين الاجتماعي والجغرافي، ما يعني تفتّت تركيا إلى أكثر من ثلاث دول… كما جذبت السياسة المصريّة بالتغاضي عن إرهاب الإخوان المسلمين، وأثارت إشكالات بين دول الخليج تحت عنوان: «لمن زعامة شبه جزيرة العرب؟»، وبالتالي العالم الإسلامي.

ويبدو أنّ هناك تعنّتاً سعودياً في مسألة حلّ الأزمة الخليجية، فهناك وفد أميركي يجول على عواصم هذه الأزمة، ولم يلقَ قبولاً نهائياً بجملة اقتراحات أميركية، بل على عكس المرجوّ، تلقّى ما يشبه الرّشى على شكل إعلان بأنّ الشركات الأميركية العاملة في الدوحة غير مشمولة بالعقاب والمحاصرة، وكأنّ واشنطن بحاجة إلى هذا التصريح الخليجي المثير للسخرية بالنسبة إليها.

ضمن هذا الإطار، يمكن إذن فهم هجوم تيلرسون على السعوديّة والبحرين لأنّهما تهاجمان على حدّ قوله «الشيعة والملحدين»، وتسيئان إلى أوضاع النساء… فكيف استفاقت «النخوة» الأميركية الآن؟ لماذا لا يندرج الهجوم على إيران ضمن استهدافات الشيعة أيضاً؟

كما يندرج في إطار إعادة تركيب أدوات أميركية جديدة، انتقاد واشنطن للاستفتاء المزمع تنظيمه في كردستان العراق، فلا أحد يصدّق أنّ واشنطن لا تستطيع منع هذا الاستفتاء المهدّد وحدة العراق. فهي تضبط بهذا الأمر الجنوح الإيراني للعراق، وتواصل كبح التوسّعية التركية وإبقاءها ضمن إطار محدود داخل العباءة الأميركية وليس خارجها.

ويذهب التحليل الموضوعي إلى أنّ السياسة الأميركية تهرول نحو تفاهمات أعمق مع الروس على قاعدة إعادة الاستفادة من الإخوان المسلمين، آخر منظّمة منتشرة، إنّما بعد تحديد الدول التي يحقّ للإخوان أداء أدوار فيها، بما يجعل مصر لا تخشى «الإخوان» الممنوع عليهم أميركياً التحرّك فيها، وكذلك الخليج الذي لن يعود إلى الذعر من دولة إسلامية إخوانيّة كانت تشكّل «فزّاعة» «الملكيات الأوتوقراطية المستبدّة» في الخليج.

ويبدو أنّ للإخوان دوراً أميركياً في آسيا الوسطى والهند والصين وروسيا ضمن إطار التجاذبات على إدارة العالم..

هناك إذاً مشروع أميركي يحاول «لملمة» ما تبقّى من أدوات قد تكون متناقضة، لكنّ واشنطن تبحث لها عن تقاطعات لضبطها في إطار حلف يسمح للبيت الأبيض بالاستمرار في الهيمنة على العالم الإسلامي. وقد يضمّ هذا التجمّع الخليج بما فيه قطر ومصر السيسي وتركيا، والإخوان والأكراد وأوروبا و«إسرائيل».

فكيف بإمكان السياسة الأميركية الجمع بين تركيا أردوغان وكرد حزب العمال؟ بين مصر والإخوان؟ هنا تكمن «ملكات» الإقناع الأميركية التي تستعمل عادةً أساليب جذب سياسية واقتصادية وعسكريّة واستخباريّة حسب تعقّد الموقف، لأنّ المطلوب هو تحقيق «المصلحة الأميركية العليا، وليس مصالح التابعين». وتجد واشنطن أنّ الصعود الروسي والاختراق الصيني الكبير وتحرّك الهند، وصمود الدور الإيراني، عناصر أكثر أهمية من الحرص على مشاعر آل سعود، أو حساسيّة العثماني أردوغان. فعندما يبدأ الجدّ ينضوي «الصغار» ضمن مصالح الكبار في لعبة الأمم.

هذا هو النتاج المباشر الذي أحدثه النصر الكبير في سورية والعراق، الذي أتاح الفرصة لإعادة تركيب مرجعيّات دوليّة قد يؤدّي تنافسها إلى العودة إلى القانون الدولي وسقوط نظام الأحاديّة الدولية الهمجيّة، كما عبّرت عنها السياسة الأميركية في العقود الثلاثة الأخيرة، من خلال القتل والتدمير والعودة إلى الاستعمار القديم.