ضباب ومطباتٌ في الطريقِ إلى «الإليزيه»: هل سيحمل الدور الأول مفاجآت؟

ضباب ومطباتٌ في الطريقِ إلى «الإليزيه»: هل سيحمل الدور الأول مفاجآت؟

تحليل وآراء

السبت، ٢٢ أبريل ٢٠١٧

 فرنسا – فراس عزيز ديب
في فرنسا، لا صوت يعلو فوق صوتِ المعركة الانتخابية التي افتتحت دورها الأول، انتخاباتٌ يبدو أن هناكَ شبه إجماع في الشارعِ الفرنسي على أنها الأكثر تعقيداً بتاريخ­­­­ الجمهورية الخامسة، هذا التعقيد ليس مردّه فقط إلى ما يعيشهُ العالم أساساً من تعقيداتٍ جيوسياسية قد تكون بدايةَ نذرٍ لحربٍ عالميةٍ ثالثة، لكن هناك أيضاً الانقسام الحاد الذي ضرب المجتمع الفرنسي، إن كان من جهةِ الانشقاق في الأفكار السياسية التقليدية نفسها وانكماشَ استقلاليةِ القرار الرسمي الفرنسي الذي باتَ مرهوناً للولايات المتحدة وغيرها، أو من جهةِ الخلاف على ما بات يُعرف بجوهرِ صراع الطبقة السياسية حول «الثوابت الوطنية»، من الهوية إلى قضايا الهجرة وغيرها.
ثلثا المرشحين البالغ عددهم أحد عشر، يرى بنفسهِ القدرة على بلوغِ الدور الحاسم، بمعزلٍ عن الفوارق في النقاط التي أعطتها استطلاعات الرأي، وآخر تلك الاستطلاعات وضع كل من ايمانويل ماكارون ومارين لوبين في القمة، يليهما كل من فرانسوا فيون وجاك ميلانشو.
يتذكر بعض المواطنين الفرنسيين استحقاقاتٍ انتخابيةٍ سابقة لم يكن فيها هذه الأعداد من المرشحين، كثرتهم في النهاية هي صورة عن الانقسام الحاصل على المستوى السياسي تحديداً أن بعض هؤلاء انشقوا عن أحزابهم الأم كـماكارون وميلانشو.
الفكرة العامة التي تنتهجها الحملات الانتخابية للمرشحين، وهي السعي بين أصوات المستقلين لأنها الوحيدة الضامنة لتحقيقِ الانتصار، باتت اليوم تصطدم بمصاعبَ عديدة أهمها الحيرة التي تصيب الناخب الفرنسي عندما يفكر لمن سيصوت، بعض هؤلاء الناخبين قد لا يخجل عندما يصارحك بأن جميعَ المرشحين يكذبون، وهم يعرفون أننا نعرف أنهم يكذبون، لكنها الديمقراطية، وعليك أن تختارَ من بينهم الأقل كذِباً.
هذا الأمر يفتح علينا باباً للتساؤل، إلى أي حدٍّ فعلياً تتحمل الشعوب مسؤولية الحكومات التي انتخبتها، وقبل أن نجيب عن هذا السؤال، علينا أن نعودَ بالذاكرةِ قليلاً لما حدث في الانتخابات الأميركية قبل أشهر، يومها كان المرشح دونالد ترامب يرفع راية «اللاحرب» إلا على التطرف، ويشهر سيفهُ بوجهِ شبه الدول التي تدعم التنظيمات الإرهابية، وعلى الرغمِ من ضعف حظوظه بالفوز إلا أن الأميركيين صدقوه وأقصوا هيلاري كلينتون، فما كانت النتيجة؟ تحوَّلَ ترامب بين ليلةٍ وضحاها لشخصٍ خالف كل ماقالهُ في حملتهِ الانتخابية، فلماذا نحمِّل الأميركيين «كمواطنين» مسؤولية ما يجري؟
هذه المقاربة تبدو عقلانية وتنطبق تماماً على الحالةِ الفرنسية، تحديداً أن العديد من المرشحين الفرنسيين حمل، كما ترامب، رايةَ الدفاع عن المحاربين الحقيقيين للإرهاب وهاجموا الداعمين الحقيقيين له، فماذا لو بدلوا كلامهم بعد وصولهم لكرسي الإليزيه، هل يستطيع أحد أن ينسى خطاب فرانسوا هولاند الشهير في الجنوب الفرنسي الذي وعد فيهِ ناخبيه أنه لن يصافح ديكتاتوراً ولن يستقبل أو يزور دكتاتوريين، وماذا كانت النتيجة؟
جدليةٌ لاتنتهي، فإذا كان الغرب الديمقراطي يتحدث عن فسادِ الطبقةِ السياسيةِ في دولِ العالمين الثاني والثالث من القاعدة نحو رأس الهرم، فإن الفساد نفسه موجود لديهم، لكنهُ بصورةٍ معكوسة أي من رأس الهرم حتى الطبقات الدنيا التي لا يبقى لها إلا الفُتات، لكن ماذا عن حظوظِ المرشحين؟
لم يكن ضباب الحدث الإرهابي الذي ضرب «الشانزليزيه» هو الوحيد الذي أعاقَ رؤيةَ ماهو قادم. حدثٌ تزامن مع المناظرة الأخيرة للمرشحين ليجدها كل من مرشح اليمين فرانسوا فيون واليمين المتطرف مارين لوبين فرصة لإعادة استحضارِ الحديث عن الإرهاب، ليس من باب أنه المشكلة الأعظم التي تواجهها فرنسا، بل لكونهِ الخطاب الأهم الذي يرفع مستوى الشعبية.
أما الضباب الآخر فهو السؤال الجوهري: من المرشحان اللذان سيعبران نحو الدور الحاسم؟ هذا السؤال لا تبدو الإجابة عنه اليوم بسيطة كما كانت في انتخابات 2012، فإذا تحدثنا عن القوى التقليدية في الحياة السياسية الفرنسية فإن حظوظ مرشح اليسار بينوا هامون بخلافةِ فرانسوا هولاند، باتَت أبعدَ من حظوظِ المرأة في مملكةِ أصدقائهم «آل سعود» من نيل حق قيادة السيارة، حتى ما يحكى عن الشعبية المهينة التي وصل إليها هولاند، ماهي إلا انعكاس لما يعانيهِ اليسار المتكاذب في فرنسا من انكشافٍ لمدى ابتعادهِ عن كل ما ينادي به، كذلك الأمر فإن سعي هولاند ورئيس وزرائه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد الانتقادات التي وُجهت إليهم عقب «اعتداء الشانزليزيه» لايبدو أنه قادرٌ على بثِّ الروح في الحملةِ الانتخابية لـ«يسار البترودولار»، لكن أزمتهم لا تقف هنا، لأن انقسامات البيت الداخلي سيكون لها اليد الطولى في تأكيدِ هزيمتهم.
أولى هذه الانقسامات اليسارية حملت المرشح ايمانويل ماكارون، ليسلكَ خطاً مستقلاً جعلت منه المرشح الأوفر حظاً حسب استطلاعات الرأي، والمصرفي الفرنسي يكفيه أنه موظف سابق في إمبراطورية «روتشيلد المالية» وحاز دعم منظِّر الربيع العربي بيرنار ليفي لنفهم ما توجهاته، وإن كان يتبع حتى الآن خطاباً ليناً يشبهُ جمالَ ونعومةَ الجلد الذي يغطي رأس الأفعى السامة.
أما الانشقاق الثاني؛ فهو المرشح صاحب التصنيف الرابع حسب استطلاعات الرأي جاك ميلانشو الذي بدا كأحد أفضل المرشحين إن كان من جهةِ تقديمهِ خطاباً متوازناً يحاول الابتعاد فيه عن «الاشتراكية التقليدية»، أم الجمع بين عدة حركات يسارية صغيرة، وهذا الانقسام في اليسار يراه البعض نقطةَ ضعفٍ ستساهم في تشتيت الأصوات، لكن هناك من بات يراه نقطةَ قوةٍ لأن وصول أحد هؤلاء الثلاثة للدور الثاني سيعني حكماً مفاجأة مدوية ستعيد تجميع الأصوات حولهُ في الدور الحاسم.
اليمين الفرنسي يبدو أن حملتهُ تجاوزت فضائح الفساد التي ضربت مرشحه فرانسوا فيون والتي أثرت بشكلٍ كبير في استطلاعات الرأي ليستقر في المركز الثالث؛ لكن هذا لا يعني أبداً أن فيون ضمن نوعاً ما العبور، بل إنه وبنظرةٍ موضوعية يُعتبر الخاسر الأكبر إذا ماوقعت المفاجأة. أما مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبين، فهي مستقرة في المركز الثاني، وربما يمكننا القول إنها المرشح الأكثر ارتياحاً لأنها لايمكن أن تخسر من خزانها الانتخابي أياً كان خطابها، وبذات الوقت فإن أصوات الناخبين التي تتوزع وتتنقل من مرشحٍ إلى آخر، تبدو مصدرَ قوةٍ لها، بل في كثيرٍ من الحالات كانت تتعاطى وكأنها أصبحت رئيساً.
إذاً بشكلٍ عام فيون ولوبين وماكارون وميلونشو، اثنان منهما سيعبران نحو الدور الحاسم من دون الخوض بباقي المرشحين؛ لكن مايلفت النظر بهذه الأسماء أن أحداً على الأقل قد يكون في الدور الثاني وهو من خارج القوى التقليدية في السياسة الفرنسية، هذا الأمر وإن كان في الظاهر يشكلُ انقلاباً أبيض فإنه بذات الوقت له محاذير ومساوئ جمّة فكيف ذلك؟
ربما لا يستطيع أحد أن يخفي خوفه من الأرقام التي أعطتها استطلاعات الرأي لمن قرروا مقاطعة التصويت، والتي وصلت في بعض الأحيان لأكثر من الثلث، والنقطة الثانية أن النظام السياسي في فرنسا يمكننا تسميته بالنظام الوسط بين الرئاسي والبرلماني وهناك من يسميه أحياناً بنظام ثنائي الرأس، بمعنى أن ساكن الإليزيه سيتحول لـ«معقب معاملات» السياسة الخارجية في حال لم يتمكن حزبه من الحصول على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات التي تلي الانتخابات الرئاسية، وغالباً ما تجاوز الفرنسيون هذا الأمر لأن التوجهات الانتخابية التي ستصوت للرئيس تبدو ذاتها التي تصوت للبرلمان، من هذا المنطلق تبدو التوجهات واضحة إن نجح فيون مثلاً، لكن ماذا عن باقي المرشحين؛ كيف سيدعم ماكارون نفسه بكتلةٍ برلمانية إذا مانجح اليمين؛ الأسوأ من ذلك، ماذا لو نجحت مارين لوبين؟ هل سيعني هذا الكلام أننا سنتجه نحو برلمان يميني متطرف؟ هل سينسى الفرنسيون مثلاً تحالفَ اليمين مع اليسار عام 2002 والتصويت لجاك شيراك لمنعِ وصول المتطرف جان ماري لوبين، أم إن نظرية الخوف من اليمين المتطرف سقطت إلى الأبد، فماذا ينتظرنا؟
بطبيعة الحال فإن التردد الذي يلامسه الناخب الفرنسي لتحديد خياراته الانتخابية يبدو مبرراً؛ أول أسبابه غيابَ الشخصيةِ التي تتمتع بالكاريزما السياسية، أما وصول شخصين من خارج الأحزاب التقليدية فيبدو أسوأ.
بكل الأحوال فإن الوهن في السياسة الفرنسية حوَّل هذه الانتخابات لما يشبه في سورية «تعيينات المخاتير»، والرئيس القادم أياً كان لا يعدو كونه «مختاراً» في قرية سيكون له صولاته وجولاته في قريتهِ، أما ماعداها فهو يتبع هرمياً لمن هو أعلى، وهل هناك من يعتقد أن السياسة الفرنسية بهذهِ الطبقة السياسية المشلولة قادرة على أن تتمرد، ربما لكي نشرح الأسباب أكثر علينا انتظار انتهاء الدور الأول، الذي أياً كانت النتائج فيه فإنها ستحمل حُكماً صفةَ «المفاجأة».

الوطن