الرياض وأنقرة... والمساكنة المصلحية.. بقلم: علي مراد

الرياض وأنقرة... والمساكنة المصلحية.. بقلم: علي مراد

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٥ أكتوبر ٢٠١٦

مارس/ آذار 1974، السفير السعودي في أنقرة يصرّح لصحيفة «يانكي» التركية أن هناك حصة من النفط تقدّر بمليونين ونصف المليون طن من النفط الخام، خصصتها حكومته لتركيا. تفاءل المسؤولون الأتراك بالإشارة السعودية مع مرورهم بأزمة اقتصادية حادّة كانوا بأمسّ الحاجة حينها إلى النفط، وصدر القرار بإيفاد نائب رئيس الحكومة ورئيس حزب «السلامة الوطني»، نجم الدين أربكان، إلى الرياض لمناقشة حصول تركيا على النفط السعودي المخفّض السعر.

بنى الأتراك تفاؤلهم هذا استناداً إلى الاعتقاد بأن الدول العربية وعلى رأسها السعودية تسعى لتقوية نفوذ أربكان والإسلام السياسي في تركيا. قبل زيارة أربكان إلى الرياض بيوم واحد نقلت صحيفة «ميلليت» عن «الشركة الوطنية التركية للنفط» قولها إن السعودية أبلغت الشركة عدم توفر كميات من النفط لتزويد تركيا بها، وأن الطموح التركي بالحصول على قرض نفطي بقيمة مليار دولار غير ممكن أبداً. لكن أربكان المعتدّ بتوجهاته الإسلامية عوّل كثيراً على خلفيته وشخصيته لإقناع الملك فيصل بن عبد العزيز بإعطاء تركيا ما تريده، متسلحاً بالاعتقاد أن الملك فيصل يحمل لواء «التضامن الإسلامي» في المنطقة في وجه «المد الماركسي» والقومية العربية. عوّل أربكان على أشخاص سعوديين حجازيين في الديوان الملكي السعودي من ذوي الأصول التركية للتأثير على قرار الملك. وصل الوفد التركي إلى الرياض واجتمع بوزير النفط السعودي أحمد زكي اليماني، طلب أربكان منه الموافقة على قرض المليار دولار النفطي، لكن اليماني أجابه بشكل قاطع أن النفط السعودي كلّه مُباع حتى عام 1976، فطلب منه أربكان أن تتم الموافقة على 250 مليون دولار، لكن الوزير السعودي لم يستجب. عاد أربكان إلى أنقرة وتنافس السياسيون والصحافيون الأتراك في الهجوم عليه واتهامه بالضعف وعدم الثقة وحتى إذلال تركيا. يذكر النائب التركي كامران إنان في مقابلة أجريت معه بداية الثمانينيات أن زيارة أربكان كانت مُذلّة لتركيا بكلّ ما للكلمة من معنى، مستشهداً بطريقة تعامل وزير النفط السعودي اليماني مع أربكان، عندما دعاه ضيفه التركي لصلاة الجماعة مع الوفد التركي بإمامته، رفض اليماني ذلك وتوجّه إلى شرفة الفندق ساخراً من ضيفه التركي.
في السادس عشر من أيار عام 1986 نُشر تصريح لأحد وزراء حكومة بولند أجاويد عام 1974، فنّد فيها عوامل فشل زيارة أربكان للرياض قائلاً: «كان لدى إسلاميي تركيا أفكار ساذجة عن السعودية. لم يكن للسعودية وقت لتضيعه مع تركيا، الأمر بالنسبة إلى السعوديين كان مجرد (بزنس) وقد عرفوا كيف يديرون مفاوضاتهم، وقد تصرفوا وفقاً لمصالحهم، بينما آراء أربكان كانت مختلفة وغير ملائمة للتعامل مع السعوديين. هناك فرق بين علاقتنا مع العراق وإيران من جهة وعلاقتنا مع السعوديين من جهة أخرى، تربطنا مع العراقيين والإيرانيين علاقات تاريخية جيدة بحكم الجيرة ولدينا مشاكلنا التي نتشارك فيها معهم، بعكس السعوديين الذين أرادوا الكاش مقابل النفط، ولا تربطنا بهم علاقة عميقة».
استمر الإذلال السعودي لتركيا المتمثّل برفض تزويدها بالنفط حوالى 7 سنوات، تكبّد فيها الاقتصاد التركي خسائر في عملته واحتياطه النقدي، مضافاً إلى غلاء الأسعار وتصاعد التظاهرات الشعبية والمطلبية التي هزّت البلاد، ومع انقلاب عام 1980 الذي دعمته الولايات المتحدة، استطاع الانقلابيون أن يحصلوا على مساعدات اقتصادية من منظمة التعاون والتنمية وحلف شمال الأطلسي. استمر الأتراك بمحاولاتهم إرضاء السعودية للقبول بتزويدهم بالنفط، مع خسارة أنقرة نفطي العراق وإيران مع نشوب الحرب بينهما، قامت السلطات التركية في آب 1980 بتخفيض التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل عبر استدعاء سفيرها من تل أبيب وإغلاق قنصليتها في القدس، على خلفية تصويت الكنيست على اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، متأملة أن يقوي هذا القرار علاقتها بالسعودية، لكن أثبتت التجربة مرة أخرى أن الأتراك كانوا يبنون سياستهم وقراراتهم بناء على «الفكر الرغبوي» الذي لم يُحدث أي أثر في الرياض.

نسق السعوديون مع الأتراك في العراق ودعموا اياد علاوي

انتعشت أنقرة اقتصادياً بعض الشيء في آذار 1981، عندما بدأت أزمة الطاقة العالمية بالانحسار، فسحب الأتراك طلباتهم النفطية لدى السعوديين، علماً بأن الرياض كانت وافقت أخيراً على تزويد تركيا بالنفط بداية العام. ساعد انخفاض سعر برميل النفط عالمياً في تحسن الاقتصاد التركي خلال فترة الثمانينيات، وفي منتصفها بدأت بوادر انفتاح الرياض على أنقرة بالظهور، مع زيارة ولي العهد آنذاك عبد الله بن عبد العزيز إلى تركيا عام 1984. وقّع عبد الله اتفاقيات مع الأتراك استقدم بموجبها السعوديون اليد العاملة التركية وشركات الإنشاءات. مع نشوب حرب تحرير الكويت في كانون ثاني يناير 1991، فتحت أنقرة قاعدة أنجرليك أمام سلاح الجو الأميركي متذرّعة بقرار مجلس الأمن 678 والتزامها بقرارات حلف شمال الأطلسي، وكان للدور التركي المساند للعمليات العسكرية ضد العراق العامل الأساس في تحسين علاقاتها مع دول الخليج بشكل عام والسعودية بشكل خاص. كافأت السعودية أنقرة بعد انتهاء الحرب بقرض نفطي بقيمة مليار ومئة مليون دولار، أتبعه السعوديون بعدها بهبة للجيش التركي بمليار دولار. استمرت العلاقة بالتحسن في فترة حكم أربكان الوجيزة عام 1996، واستمرت بعد انقلاب عام 1997، لكنها سرعان ما توترت على خلفية هدم الرياض قلعة أجياد العثمانية التاريخية المطلة على الكعبة، بداية عام 2002 لإقامة فندق فخم. شبّه وزير الثقافة التركي حينها الخطوة السعودية بهدم طالبان تماثيل بوذا في باميان بأفغانستان، متهماً السعودية بمحو الإرث التاريخي التركي العثماني في الجزيرة العربية. وصل حزب العدالة التنمية إلى سدة الحكم بفوزه في الانتخابات عام 2002، ولأنه يتبنى سياسة رأسمالية السوق، حظي الحزب باهتمام السعوديين، فنسجوا علاقة جديدة مع تركيا عنوانها الاقتصاد حصراً. لم يجد البلدان بدّاً من التنسيق المشترك في قضايا المنطقة مع بروز محور المقاومة في المنطقة وعلى رأسه إيران. فيما كان محور المقاومة يستعد للاحتفال بالانتصار في «حرب تموز» في 14 آب 2006، كان الملك عبد الله بن عبد العزيز يزور أنقرة في أول زيارة لملك سعودي منذ عام 1966، وفي ذلك رسالة كبيرة تدلل على القلق المشترك نتيجة صعود إيران وحلفائها في المنطقة بعد هذا الانتصار، الأمر الذي يحتّم على كل من أنقرة والرياض التنسيق فيما بينهما، في ظل تعاظم الدور الإيراني في المنطقة الذي يهدد مصالحهما المشتركة. نسق السعوديون مع الأتراك في العراق ودعما اياد علاوي، وسعيا مع قرب انسحاب القوات الأميركية من العراق إلى التأثير في السياسة العراقية. مع اندلاع «الربيع العربي»، وجب على البلدين رفع مستوى التنسيق المتبادل، لكن احتضان حزب أردوغان لمشروع الإخوان المسلمين ودعم وصولهم عبر الثورات إلى الحكم في الدول العربية أنتج شرخاً واضحاً بين الطرفين، بدأ في سوريا مع دعم تركيا «الإخوان»، فيما دعمت السعودية فصائل إسلامية تتبنى الأيديولجيا الوهابية والسلفية. ظهر للعلن الخلاف التركي ــ السعودي على الأرض السورية، عززه لاحقاً الموقف من الانقلاب في مصر عام 2013، لكنه ظل مضبوطاً مع محاولات سعودية لإحداث اختراقات كل فترة.
سياسة «صفر مشاكل» مع الجيران التي أعلنها حزب العدالة والتنمية مع صعوده عام 2002، أنتجت صفر علاقات بعد عقد من الزمن، غير أن الأتراك استطاعوا أن يستغلّوا الحاجة السعودية إلى الحدود التركية مع سوريا، وهذا ما يفسّر استمرار أنقرة في الحصول على العقود الاقتصادية مع الرياض، بالإضافة إلى اتفاقيات ساعدت الاقتصاد التركي على الوصول إلى دول الخليج أكثر من أي وقت مضى. رغم الخلاف الأيديولوجي في مشروعي كل من السعودية وتركيا، استطاع أردوغان أن يستثمر في علاقته المصلحية مع السعوديين، فعاد بالفائدة على اقتصاده من جهة، ودعم مشروعه دعائياً في الأوساط الشعبية العربية. تعرض التحالف الظاهر بين أنقرة والرياض مع بداية عهد سلمان بن عبد العزيز للاهتزاز عقب عملية الانقلاب الفاشلة في 15 تموز الفائت، وظهرت العديد من المؤشرات على البرودة في العلاقة بين الجانبين من تسريبات صحافية عن ارتباط سعودي خليجي بعملية الانقلاب، إلى أول زيارة يقوم بها مسؤول سعودي لتركيا بعد الانقلاب، قام بها عادل الجبير في 9 أيلول الفائت – بعد حوالى شهرين تقريباً على المحاولة الانقلابية – لتمهّد لزيارة ولي العهد السعودي محمد بن نايف في 28 أيلول الفائت لتطيّب خاطر أردوغان مدعومة بالحاجة المشتركة إلى التنسيق إقليمياً. في 13 تشرين الأول الجاري اجتمع وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو مع نظرائه الخليجيين في الرياض، وتبيّن أن ملفي حلب والموصل تصدّرا المباحثات، ولتتأكّد الفكرة القائلة بأن كلاً من السعوديين والأتراك تجمعهم دائماً أهداف إقليمية مشتركة، كما حصل في آذار 2015 عندما أفضى التحالف التركي ــ السعودي إلى انطلاق عمليات «جيش الفتح» في إدلب وتحقيق انتصارات.
يظهر للمراقب أن رجب طيب أردوغان أبدى استعداداً لتخطي أيّ رواسب كانت قد تشكّلت بعد عملية الانقلاب الفاشل تجاه الرياض. الرجل ما زال بحاجة إلى السعودية لسببين: الأول أن قطر لا تستطيع أن توفّر له الغطاء الذي يحتاج إليه عربياً لتحقيق أهدافه القومية في شمالي العراق وسوريا، ولا خيار أمامه – في ظل القطيعة والخلاف مع مصر السيسي – إلا أن يبتلع غدر السعودية ومن خلفها الإمارات ليضمن تأييداً عربياً في محاولته الحصول على حصة في الموصل كأولوية. أما الثاني فيمكن تلمّس إيحاءاته من حجم التأييد الكبير في صفوف القواعد الشعبية في دول الخليج - وفي السعودية تحديداً - عقب محاولة الانقلاب الفاشلة. يفضّل أردوغان إبقاء موطئ قدم له في السعودية للتغلغل أكثر في النسيج الاجتماعي والسياسي السعودي وتغذية التيار الإخواني الآخذ في التمدد مع ظهور بوادر عدم استقرار داخل السعودية بسبب الأزمة الاقتصادية، وتقلص الثقة بالنظام الحاكم بعد هزائمه المتتالية في الإقليم. في الحرم المكي مساء 2 شباط الماضي، وقف رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو في الحرم المكي خلال أدائه مراسم العمرة لإلقاء التحية على الطائفين، أدار المعتمرون ظهورهم للكعبة مصفقين له وهاتفين بحرارة. غضب السعوديون من المشهد واعتبروه إشارة على حجم التأييد الكبير للعثمانيين الجدد في بلاد الحرمين. هل يمكن تخيّل تأثير رئيس كأردوغان وقد حصل على وصاية دينية وسياسية على الحرمين في المستقبل؟