مشيئة السُّلطة.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

مشيئة السُّلطة.. بقلم: د. عبد الرزاق المؤنس

تحليل وآراء

الثلاثاء، ٢٨ يونيو ٢٠١٦

كيف يمكن لأي مؤمن أو لأي إنسان مواطن أن يطبق قول الله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان..) 90 النحل، إذا لم يكن متمتعاً من الله تعالى صاحب هذا الأمر وغيره بالإرادة والمشيئة التي لا تستبعدها سلطة تبعية لعبودية أرضية أو لأي إرهاب تضييق أو تخويف يهدد رأيه ومشيئته؟! أما مشيئة القضاء والقدر الربانية فإنما هي من حيث العلم الإيماني بها ومن حيث غَيبيتُها عن الإنسان تعني تكريساً وتعزيزاً لإرادته من وحي اختياره وهو يعلم أن أي اختيار مسؤول منه فهو من مصادر ذلك القضاء والقدر الذي آمن به ولم يطلع عليه ولم يتدخل أيضاً في مشيئة الإنسان، كذلك فهو- القضاء والقدر- لا يَقْسِرُ أحداً على رأي أو على وجهة محددة أو على اتباع طريق ما قهراً وإلجاءً، وهذا كله من مفاهيم كرامة الإنسان واحترام فعله النفسي والعقلي، ولا يدل هذا الإيمان بالقضاء والقدر إلا على علم الله عز وجل الذي وسع علمه كل شيء وترك للإنسان تخصيصاً دون غيره من المخلوقات حتى الملائكة مساحة من الاختيار والمشيئة حتى في أخطر قضية كونية وهي الدين والعقيدة كما جاء: (وقل الحقُ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..) وقوله تعالى: (ونفسٍ وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)، وإن الله تعالى ما أنزل دينه – الإسلام- وجميع تشريعات هذا الدين على جميع الأنبياء والمرسلين إلا نصحاً وإحساناً ليُحكِم هذا الإنسان مسؤوليته عن معرفة وثقافة ووعي يفيض عليه من بوابته الأعظم وهي الوحي الإلهي ومصادره في هذا العلم والفضل الرباني ليكون متحققاً من كرامته، وحذراً من أي ظلم وجهل وضلال، وهذه هي مصادر شقاء الإنسان والحياة كما قال الله تعالى: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً)، كذلك فهو بهذه النعمة الهدائية إنما يحصّن حريته ومشيئته لئلا يهان في مساقط التبعية لطواغيت الأرض ولطاغوت نفسه وشهواته المتفلتة؛ فإنه عندئذ وعند استقلاله عن هدي الله تعالى يتحول إلى مصادر حروب ومجاعات وكفريات وعداوات في الحياة البشرية لا تتحرج عن أن تكون أقسى من الوحوش الحيوانية فتأكل لحوم البشر بكل أشكال هذا الأكل، ومنه: (ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه؟!!) من سورة الحجرات، أو كما قيل:
وليس الذئب يأكل لحم ذئب        ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
تلك بعض الأهمية اللازمة لسلطة الإيمان بالقضاء والقدر عند الإنسان حيث احترمت هذه السلطة مشيئة الإنسان، وكانت مصدر اختياراته التي تقدست بوسائل إيضاح المنهج الرباني للتشريع العالمي الكوني الإسلامي، وقد تشرّف به هذا الإنسان دون غيره من مخلوقات الله تعالى؛ ومن توجيهات هذا الإيمان ودلالاته جاء قول الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز: (إن الله لا يطالب بما قضى وقدر، ولكن يطالب بما نهى وأمر)، وإن ما رضيه الله تعالى لنا من الدين لم يرض فيه أن يكون تحت تسلّط أي فئة باسم الدعوة الإسلامية أو التوجيه الديني، فهي دعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولن تكون في الحقيقة والواقع دعوة إلى الله الرحمن الرحيم إذا تكوّنت عليها جماعات وأحزاب ومشيخيات أو تبعيات لسياسات دول أو قوى مختلفة تفرض آراءها وأهدافها وسياساتها بما يخدم مصالحها الخاصة أو ترضي حظوظ دول ومخططات؟! إن هذا الدين لم يأذن به الله تعالى لأي نبي ولا لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام خاتم المرسلين أن يغير فيه أو يحكم به من تلقاء نفسه من دون اتباع وحي الله عز وجل؛ فقال تعالى: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) من سورة المائدة، ومثله لكل مسؤول وإنسان وحاكم مؤمن كما جاء: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدَين والأقربين..) من سورة المائدة
فإذا كان الله سبحانه وتعالى (لا يظلم مثقال ذرة) كما جاء في القرآن، وأنه قد حرَّم الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرماً كما هو في الحديث القدسي؛ فهل يعقل أو يكون بين الناس رضى عمن يَظلم؟ أو تعاون مع من يظلم؟ أو أن يكون الناس في منأى عن البلاء والمصائب وهم فيما بينهم متظالمون؟ فأين سلطة الحق والعدل؟
إنها إذا غابت أو غُيبت فلا بد أن تحل محلها سلطة الباطل والظلم، وسلطة من قال في حق آدم عليه السلام العالِم المكرّم حسداً وبغياً واستكباراً وإبليسياً: (أنا خيرٌ منه) وكم مساحة (أنا خيرٌ منه) حسداً وتكبراً هذه الأيام؟!