من جنيف قذيفة نحو القمر .. من مدافع الأسد

من جنيف قذيفة نحو القمر .. من مدافع الأسد

مؤتمر جنيف 2

الأحد، ١٦ فبراير ٢٠١٤

من يقرأ في تفاصيل مفاوضات جنيف يعتقد للوهلة الأولى أنها رواية من روايات جول فيرن الروائي الفرنسي الذي عرف أنه يكتب قصص الخيال العلمي مثل رواية “حول العالم في ثمانين يوما” .. ورواية عشرين ألف فرسخ تحت البحر .. ورواية “من الأرض الى القمر” والتي يركب فيها مجموعة من المغامرين طلقة مدفع عملاق يسدد نحو القمر ويقذفها نحوه .. وسيجد المتابع لمحادثات جنيف أنه يقرأ أهم رواية خيالية على الاطلاق تسمى (الائتلاف المعارض في رحلة الى القمر) .. لأنه لايمكن الا للخيال العلمي ايجاد اختراعات غريبة تشبه هذا الاختراع المسمى الائتلاف السوري المعارض الذي يدعي الوطنية وتمثيل الشعب السوري التائق للحرية فيما رئيسه الفعلي هو السفير الأميريكي روبرت فورد نفسه الذي لاتفوته فائتة بل ويتصرف أحيانا بوصائية أبوية كأنه هو الرئيس السوري القادم والذي يسابق الزمن ليترشح في انتخابات عام 2014 .. هذا الاختراع العجيب المسمى ائتلافا يتكون من خلطة غريبة من المتناقضات فأعضاؤه يحملون جوازات سفر اميريكية وبريطانية وفرنسية ومع هذا يمثلون الشعب السوري !!.. وطبعا من الناحية الأخلاقية والسياسية هذا لايجوز مالم يتخلوا عن جوازات سفرهم الغربية لأنه لايجوز لقائد ثورة الانتماء لشعبين معا يتصارعان وهذان الشعبان على طاولة المفاوضات .. لأن المفاوضات الحقيقية هي بين الشعب السوري من جهة وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة من جهة ثانية .. وهذا الائتلاف يشبه مقهى للهواة المغامرين الفاشلين والمجرمين الخطرين ومهربي المخدرات السعوديين مع مهاجرين وحالمين وباحثين عن الذهب في انهار أميريكا ولكن المقاتلين على الأرض من جماعة الله أكبر ونكاح الحور العين .. ولعل أهم اختراع من اختراعات الخيال العلمي هو جهاز للسباحة تحت الدم يسمى “لؤي الصافي” فهو قادر على الغوص عشرين ألف فرسخ في أعماق بحار الدم التي سالت دون أن يتنفس الاكسجين ودون أن يعرف الفرق بين الدم والماء ..
وتبدو قصة السفر الى القمر في قذيفة مدفع منطقية جدا وممكنة جدا وليس فيها خيال بالقياس لصناعة ثورة ارهابية وهابية ويكون قادة هذه الثورة من المهربين أو المغامرين .. وأنا على يقين أن من يقرأ جول فيرن سيعرف أن أب الخيال العلمي عجز عن تخيل شيء يشبه الائتلاف السوري الذي يعيش أعضاؤه في حالة انعدام الوزن دون مغادرة الغلاف الجوي للأرض وضد قانون الجاذبية ويعتقدون أن الجلوس في قذيفة مدفع أميريكي يمكن أن يوصلهم الى “قمرهم” .. أي قصر الشعب في قاسيون .. ولو أدركهم جول فيرن لكتب رواية “رحلة الائتلاف من الارض الى الثقب الأسود” ..التي سنكتبها نحن..
هذه المجموعة الغريبة الأطوار بالفعل تعيش في قذيفة مدفع ولاتخضع لقوانين علم السياسة والمنطق والجاذبية السياسية .. فهي تتحدث باسم 23 مليون سوري رغم انها لاتمثل سوى 23 شخصا على الأكثر في ظل احتقار المجموعات المسلحة لها ورفضها علنا لها .. وهي لاتعبأ بكل البيانات التي صدرت عن مئات التشكيلات الاسلامية المسلحة على الأرض التي تسخر منها وترفض تمثيلها والولاء لها بل وتهددها بالقتل .. وهذه المجموعة المخترعة من وحي الخيال العلمي وتسافر في قذيفة مدفع نحو المستقبل هي مجرد صندوق بريد للرسائل بين القيادة السورية والغرب .. وجميع ركاب قذيفة المدفع من فريق التفاوض يمارسون السياسة من باب العمل الاضافي والارتجالي والهواية العابرة مثل تجار الشنطة وكأنهم على طاولة في مدن ديزني للتسلية ..
وأذكر هنا لؤي صافي الذي قدم الى سورية بعيد اجتياح العراق وقدم نفسه على انه من مجلس سمي المجلس السوري الاميريكي ولديه مشروع لانفتاح سياسي سوري .. وقابل عددا من المسؤولين السوريين بل وطلب مقابلة الرئيس بشار الأسد ولكن عندما وجهت له الأسئلة عن تفاصيل المشروع تبين أنه لايعرف الاجابات بل عجز عن الاجابة عن أساسيات وطنية وبدهية وبدا لكل من استمع اليه ان مشروع الانفتاح السياسي الذي يقدمه الصافي ومجموعته يتوافق مع معلومات سابقة في عام 2004 عن نوايا اميريكية لخلخلة الدولة السورية من الداخل وكان من الواضح ان هذه المجموعة تريد الدخول الى سورية وبناء كيان سياسي واعلامي غامض بحجة “الحرية الضرورة” للتغلغل في الأوساط المثقفة والنخب الاقتصادية لتتسلل عبر هيئات بريئة الى الضمير السوري وتنفجر فيه لاحقا .. ورصدت الأجهزة السورية يومها تواصل بعض أعضاء هذه المجموعة سرا مع مجموعة اسلامية تم ايقافها في ريف دمشق كانت تحاول التصرف ببراءة ظاهرة عبر أعمال تطوعية لكنها كانت تريد خلق مناخات مناوئة لسلطة الدولة في الريف الدمشقي .. وكان هناك شعور بعدم الاطمئنان الى هذه المجموعة السورية الامريكية في احداث البلبلة عبر طرح قضايا خلافية في غير توقيت مناسب وتشتيت انتباه المجتمع ومنها طرح مبادرات سياسية غامضة ظاهرها وطني وقلبها أمريكي.. ومما يلاحظ أن كمية الاسئلة الطبيعية التي وجهت للؤي الصافي ومجموعته كانت كثيرة لأنه لاتوجد دولة تقبل بمشاريع سياسية قادمة مما وراء المحيطات دون الاحاطة بكل تفاصيلها .. فكل المشاريع القادمة من المهاجر يجب التريث في قبولها وخاصة بعد عودة الابن المخلص أمين ثابت من المهجر ليتبين أنه ايليا كوهين .. ولكن لؤي كان يعطي اجابات غامضة أو لايجيب بحجة أنها أسئلة بيروقراطية .. وكانت هناك أسماء قدمها للدولة من المعروف أن لها ارتباطات غير طبيعية بالسياسيين الغربيين حسب البيانات والملفات المتاحة .. وطرحها كان سببا في زيادة التشكيك في هذه المجموعة .. ولكن ربما كانت أهم عبارة سمعتها عن لؤي صافي هي أنه أعطى انطباعا أنه شخص بمؤهلات محدودة وضعيفة ولا يتمتع بصفات ومواهب قيادية لمشروع بحجم انفتاح سياسي طموح بل ويفتقد حتى الى الذكاء الاجتماعي ومن الغريب أن يتنطح لمشروع كهذا .. وكان في بعض المواقف يتصرف بسذاجة فهو يعتقد أنه لمجرد انه قادم من الغرب فانه متفوق ومقنع .. وكل من يراقب أداءه الآن في مؤتمر جنيف يدرك كم كانت القيادة السورية دقيقة في الحكم على مواهبه المتواضعة وذكائه الاجتماعي ومحدودية قدراته .. فهذا شخص يريد المشاركة في قيادة بلد لكنه ضحل جدا بحيث أنه لايقدر على الاجابة على اسئلة صحفية فكيف له أن يواجه اعلام العالم اذا تولى عملا سياسيا وطنيا في أعقد نقطة سياسية في العالم كله .. دمشق.. ان وجوده في الائتلاف هو بالضبط تعبير صادق عن الرجل المناسب في المكان المناسب ..
على كل حال .. لايكترث المتابعون الحصيفون بالائتلاف بل يقرأ هؤلاء الصراع الدائر على سورية الآن بدقة متناهية ويرون أزمات الأطراف جميعا من خلال طروحاتها .. فالائتلاف يبدو أنه لايقدر على الاطلاق على مغادرة نقطة “الهيئة الانتقالية” وكأنها قانون الجاذبية الأرضية أو سرعة الضوء .. ويبدو مصابا بالرعب من امكانية اضمحلالها .. ولايقدر الائتلاف على التزحزح عنها وكأن قدميه وضعتا في قالب اسمنتي وبدا عاجزا عن التحرك .. ورغم أن البعض يرى في هذا الموقف المتشنج محاولة لتفكيك جنيف وتمييعه أو تفكيك معسكر المحور السوري الروسي الايراني وخلخلته .. واعادة خلخلة البناء السياسي لفكرة الحوار في انتظار “معجزة عسكرية ما” أو نيزك يضرب جبل قاسيون .. ولكن القراءة الواعية للاصرار على تحقيق فكرة الهيئة الانتقالية سينزع الستار الحديدي عن كل المشروع الأمريكي في المنطقة ..
وقبل تفكيك مصطلح الهيئة الانتقالية ونزع الصواعق المثبتة به تجب الاشارة الى أن هذا الطلب العزيز والثمين يقرأ في الاوساط الرصينة الغربية التي تتبادل الرأي بعيدا عن ضجيج الاعلاميين و”تفنيصاتهم” على أنه في الحقيقة مظهر ضعف غربي ملفت للنظر لأنه اعتراف غير مباشر بأن الغرب على يقين من أن التغيير بالموازين العسكرية صار مستحيلا .. وأن الغرب ليس في وارد عملية ارغام السوريين على الانصياع له بالقوة الأطلسية كما فعل في يوغسلافيا والعراق وليبيا وهو يلجأ الآن لعملية غزو ديبلوماسي وارهابي ليس الا .. الاصرار الغربي على التمسك بهيئة حكم انتقالية يعني شيئا واحدا برأي تلك الأوساط الرصينة .. فالقوى العظمى لاتتمسك بخيارات سياسية تجعلها مقدسة بكل حروفها ولاتتعلق بها وتدافع عنها بشراسة واستماتة الا عندما تكون قد أدركت أنه لم يعد هناك دور للقوة العسكرية في الصراع وأن عمليات الانزال الديبلوماسي بالتشنج السياسي هو بديل عن القوة المسلحة .. فتقدم بدائل ومبادرات مفخخة وتقوم بعملية انزال ديبلوماسي خلف خطوط العدو لأن القوة العسكرية صارت محدودة في قدرتها على التأثير في ظل معادلات اخرى تؤثر فيها..
المعادلة الصريحة الآن هي أن الولايات المتحدة ليس في جعبتها خيار مواجهة عسكرية مباشرة لأنها لو كانت بصدد تلك المواجهة لضغطت عسكريا في ذروة المواجهة الكيماوية وقايضت التهديد العسكري بالهيئة الانتقالية والسلاح الكيماوي معا ولم تنتظر لأن الانتظار دوما ليس في صالح المهاجم بل المدافع .. لكن الولايات المتحدة لم تعد تملك مشروعا عسكريا لتبيعه وتقبض ثمنه تنازلات .. بل تملك مشروعا ارهابيا فقط لتبيعه حيث تقايض الارهاب مقابل تنازل يسمى “هيئة حكم انتقالية” .. اي أنها ستقبل بايقاف الارهاب مؤقتا مقابل موافقة الدولة السورية بقبول الهيئة الانتقالية .. وهذا بحد ذاته نصر لها لايقدر بثمن ..وهو نهاية الدولة الوطنية السورية ..
الغرب وخاصة الجانب الامريكي معروف أنه لايريد بقاء الرئيس الأسد “التقليدي” .. الأسد التقليدي لديه طموحاته اللاتقليدية وهو النموذج الخطر .. لكن الغرب يريده رئيسا في نادي رؤساء “النأي بالنفس” .. ليس فقط لأن الأسد صاحب مشروع خطير تطاول على الخطوط الحمر للنظام العالمي الذي أرساه جورج بوش الأب والمحافظون الجدد .. بل لأنه نجح في اخراج الروس من الفخ التاريخي وخيار “النأي بالنفس” الذي وقعت فيه روسيا لعقدين بتخليها عن امبراطوريتها مقابل اللعبة الديمقراطية .. فقد كان أول خروج لروسيا من غرفة العناية المشددة والمنفى الاختياري (بعد صدمة التفكك) هو بين عامي 2005 – 2006 عندما وجد الروس أن لديهم حليفا في الشرق الأوسط يمكن الاعتماد عليه وأنه أجاد المناورة العسكرية مع حلفائه اللبنانيين الى حد مثير للاعجاب وأربك الامبراطورية الاميريكية .. وحسب بعض الملاحظات المسربة فقد كان الروس يقرؤون باهتمام بالغ ويراقبون بحرص شديد مناورة الأسد ونجاد في العراق ومناورة الاسد وحسن نصر الله في لبنان ضد الامريكيين .. وكان الروس غير متأكدين أن تلك المغامرة السورية الايرانية واللبنانية في زمن (أحداث سبتمبر) ومجانين الهارماجيدون ستنجح أو ستمر دون أن يطلق رعاة البقر نيران مسدساتهم بكثافة على من بقي من “هنود الشرق الاوسط الحمر” الذين وقفوا في وجوههم .. المخابرات الروسية كانت تراقب وتقدم تقارير غزيرة يومية للقدرة الكبيرة للسوريين على المناورة والالتفاف وتفادي المطبات ومن ثم ربط الوحش الامريكي بدهاء بالحبال حتى لم يعد قادرا على الحركة وهو يتلقى طعنات مصارعي الثيران .. وقدمت معاهد الأبحاث الروسية السياسية نصيحة للكرملين مبنية على دراسة آلاف الصفحات وهي: أن محور دمشق – طهران هو جسر روسيا للخروج من المطب التاريخي الذي وقعت فيه روسيا وادخال أميريكا في نفس المطب .. ومحور دمشق – طهران هو حبل مدته الأقدار للروس .. ولحظة مفصلية لايجب أن تضيع ..وحتما لن تعود ..
وهذا الخروج للروس من الكمين الغربي عبر بوابة دمشق أوصلهم الى مصر وافريقيا فهاهم يخطون نحو قناة السويس .. ورغم أن تحرك السيسي لايزال غير واضح المعالم والأهداف الا أن زيارته لموسكو تبعها على الفور تهديد اميريكي مبطن بتصعيد عسكري في الأزمة السورية .. كما لو انها تحذير يعلن ان العودة الروسية الى افريقيا قد تكلف تصعيدا واقلاقا للملف السوري وانسحابا من العملية السياسية لتأزيم الموقف في المنطقة ..وصار الملف السوري فجأة خط حماية قناة السويس ودرع أميريكا ضد روسيا الخارجة من الكمين الذي وقعت فيه طوال عقدين ..ويذهب البعض الى أن النجاح السوري في استدراج الروس للخروج من قفص صدمة الانهيار السوفييتي قد تسبب في نجاح آخر فقد ظهرت روسيا لأول مرة منذ تفكك امبراطورية السوفييت بلدا يعتمد عليه وقد قاتل بشراسة من أجل حلفائه وأخلص في دعمهم .. فقد أذهلت روسيا المراقبين في لجمها للغرب عندما تعلق الأمر بحليفتها سورية .. مما يراه البعض سببا غير مباشر سيشجع الكثيرين كما ربما شجعت الجنرال السيسي وفريقه السياسي على المغامرة والمراهنة على التقارب مع روسيا القوية لموازنة التأثير الغربي الداعم للاخوان المسلمين .. وان عاد الروس الى مصر فستكون الأزمة السورية هي التي فتحت أبواب مصر لها .. ومن جديد سينظر للأسد على أنه السبب غير المباشر في اعادة روسيا الى الشرق .. وسيضيف هذا سببا آخر لكراهيته والنقمة عليه ..فقد كسر أقفال الشرق التي تعب الغرب في اقفالها .. فتدفقت روسيا اليه .. ويشبه الانكليز مناورة الأسد التي أغرت روسيا بالمواجهة بمناورة تشرشل لاغواء الامريكيين واستدراجهم الى الحرب العالمية حين أخفى معلومات خطرة عن نية اليابان مهاجمة بيرل هاربر فتمكن اليابانيون من مفاجأة الامريكيين الذين انزلقوا الى الحرب .. ولولا تلك الخطوة لما نجح هجوم بيرل هاربر ولما انخرطت اميريكا في الحرب العالمية الثانية الى جانب تشرشل..
ولنفهم المناورة الامريكية الآن في جنيف يجب ازاحة الستار الحديدي الذي يغطي عبارة “هيئة الحكم الانتقالية” وازالة مساحيق التمويه والتجميل الديمقراطية .. فعلينا أن نعرف طبعا أنها عبارة تقصد شخص الرئيس الأسد أولا وسياسة الدولة السورية المستقلة ثانيا عبر زرع معارضة مسبقة الصنع على غرار 14 آذار اللبنانية .. ولذلك نرى أن ماقاله الضفدع ميشيل كيلو بصراحة ليس فيه أي مراوغة وهو “أن الهيئة الانتقالية ليست حكرا للمعارضة بل هي مؤسسة مشتركة للنظام والمعارضة معا لادارة مشتركة للبلاد .. وهذا لب العمل الديمقراطي ..” ويقولها كيلو بمسحة من الدعائية وبلهجة استنكار وتعجب فيها تجميل للفكرة واستغراب من الخوف منها ..
كلام الضفدع عن الديمقراطية دوما جميل ولايجرؤ الناس عادة على المجادلة بقداستها كقيمة مطلقة وخير مطلق للمجتمعات .. ولكن هنا يكمن الانزال الديبلوماسي .. حيث لايهم الأمريكيين ان تمكن النظام من شل المعارضة في الهيئة الانتقالية طالما ان المعارضة أيضا ستصير قادرة على شل القرار الوطني السوري لصالح قوى خارجية .. وطالما أنها دخلت اللعبة السياسية وصناعة تعطيل القرار المستقل فانها ستصبح قادرة حتى على ان تتدخل في المعاهدات المبرمة والاعتراض على الاتفاقيات السابقة مع ايران وروسيا طيلة فترة وجودها .. والهيئة المقترحة ستكون المهمة الرئيسية لها هي العمل على ضبط تحرك الجيش السوري ونشاطه وفعالية الأجهزة الأمنية .. فالهيئة ليست في وارد احكام السيطرة على الفنادق والمطاعم وصالات الأفراح والبلديات وحركة المرور وتراخيص البناء وعقود الاتصالات وحركة تصدير الأغنام الى السعودية .. بل تريد تقييد أهم مؤسستين في أية دولة في العالم .. الجيش والأمن .. كما قال عزمي بشارة بمرارة من أنه لامعنى لأي هيئة حكم تضع يدها على كل شيء في البلاد وعلى كل المؤسسات والوزارات والقطاعات ومافوق الارض وماتحتها دون أن تضع يدها على الجيش والأمن ..
تشبث الولايات المتحدة بالهيئة الانتقالية قبل معالجة الملف الارهابي يقرأ على أنه بناء نظام ديمقراطي يكون فيه الرئيس السوري من مقاس ميشيل سليمان ومقاس كل النائين بأنفسهم عبر تطعيم العملية السياسية الديمقراطية بفريق 14 آذار سوري لديه آليات الثلث المعطل دوما كما في لبنان .. وبدلا من لبننة الصراع في المدن السورية تتم لبننة القرار السياسي وآلية صناعة الحكم .. وماان ندخل في نفق الهيئات الانتقالية حتى تكون الخطوة التالية الطبيعية هي دسترة الوهابية السياسية .. لأن مجرد بقاء القوى المسلحة الى جانب هيئة حكم انتقالي سيعني أن الدولة ستكون مشلولة في عملية التصدي للنشاط المسلح الذي أعلن أنه سلفا غير معني بأي اتفاق .. بل لن تتمكن الدولة المشلولة بسبب الهيئة أن تتخذ اي قرار بالرد على العنف بسبب الغطاء الذي سيوفره المعارضون في الهيئة التي ستمنع تحرك الجيش والأمن بأية ذريعة مثل تقييد حزب الله في لبنان باعتراضات “هيئة الحكم الانتقالية اللبنانية المتمثلة في 14 آذار .. فلبنان محكوم بهيئة حكم انتقالية لانهاية لها منذ استقلاله .. وهذا الجو من مزيج الديمقراطية والارهاب سيؤدي في سورية الى أن تنمو نزعات الرد والانتقام من قبل مجموعات سكانية مستهدفة لاتجد لها من يحميها من عنف المسلحين عندما تصاب الدولة وجيشها بالشلل .. وفي هذه الفوضى على الأرض والشلل الحكومي ستضع من خلالها أميريكا عبر الهيئة مشروعا للتدخل الدولي والقبعات الزرق ومؤتمرات للمحاصصة الطائفية التي سيعني فيما تعنيه التقسيم والشرذمة لقوى المجتمع عبر البدء بتوزيع الأدوار على الطوائف .. وهو يعني قبولا بالفكرة اللبنانية انما بنسخة وهابية أكثر رجعية بشكل دستوري ملمع ..
وكما هو معروف فما ان تدخل المحاصصات الطائفية في تكوين مؤسسة الحكم حتى ينسحب ذلك على المجتمع والثقافة .. ومنذ ان يدخل هذا النظام الطائفي البناء الثقافي والاجتماعي والنفسي فلا قوة في الارض ستخرجه لأن المجتمعات المنفصلة عرقيا أو دينيا أو ثقافيا تخشى من اعادة صهرها ومن اعادة الاندماج وخاصة أن بعضها سيجد في الانصهار ذوبانا يضيع خصوصية مزيفة لتميزها .. وذلك سيؤسس لتصدعات جغرافية وحركات انعزالية وقيام دويلات وكيانات متقوقعة ..
وهذا بالضبط هو الغرض من هيئة حكم انتقالي .. أي بدل الوصول الى ذلك الهدف بانزال المارينز مباشرة على السواحل السورية والقصف بالتوماهوك لشق المجتمع والبلاد من الأسفل نحو أعلى قمة الهرم السياسي يقوم روبرت فورد بانزال مارينز سياسي معلب في معارضة صناعية في هيئة حكم انتقالي تتولى عملية شق الدولة من فوق وتتجه نحو الأسفل حيث المجتمع والجغرافيا .. ثورة من فوق الى تحت تبدأ بسكين الهيئة الانتقالية .. وبشق عمودي من الأعلى الى الاسفل .. وولادة دويلات جديدة ..وموت بلد عمره عشرة آلاف سنة يكتب على شاهدة قبره .. “قصة حضارة توفيت بسموم اسمها “هيئة حكم انتقالية ديمقراطية” ..سيدرك العالم في يوم قريب ان أقوى سلاحين لتدمير الامم العريقة هما الارهاب والديمقراطية عندما تجتمعان معا ..
ليس لأن الديمقراطية شيء بغيض لكن لأن الديمقراطية التي تحضن الارهاب لم تؤسس لها أخلاقيات أثينا القديمة التي لم تكن تعرف شيئا عن اختراعات الارهاب والوهابية السياسية ..ولم تأخذ في الحسبان صناعة الائتلافات الديمقراطية .. بل كانت تعتمد على أنقى أشكال الفكر الانساني الصافي غير المخلوط بالدعاية والمال وشركات النفط .. أما ديمقراطيات العالم الحرالذي نعيش فيه فليس لها اخلاق ولامبادئ أثينا التي وضعت أول أسس الديمقراطية ..
ففي زمن أرسطو وسقراط لم يكن هناك فيلتمان ولا الاعلام الموجه بالمال ولا بان كيمون ولا الأمم المتحدة ولا آموس ولا تمثيليات الموت بالسلاح الكيماوي ولا مسرحيات أسلحة الدمار الشامل الخلبية .. ديمقراطية هذا الزمان هي ديمقراطية صنعها قتلة الهنود الحمر وقتلة الفييتناميين والعراقيين .. وصنعتها ديمقراطية الكذب في لندن عبر مدفع النفاق في ال بي بي سي .. وديمقراطية باريس التي قتلت مليون جزائري ..وملايين الأفارقة ..
ديمقراطية اليوم في سورية هي ديمقراطية لها ذيل وهابي .. وهي ديمقراطية دولة شايلوك في اسرائيل .. وديمقراطية بورصة وول ستريت ولندن … وديمقراطية أبو متعب الوهابي وابو بكر البغدادي وابو محمد الجولاني ورياض الشقفة .. لذلك قولوا ماشئتم عن الديمقراطية فأنا لاأحبها وسأحتقرها على الدوام .. وسأحتقر هيئاتها ومجالسها .. فهي ديكتاتورية بشعة جدا .. ومخيفة جدا .. وكاذبة جدا .. ودموية جدا.. وأكثر الديكتاتوريات البشرية خطرا .. انها أكثر تعبير عن خضراء الدمن التي حذرنا منها نبينا قبل خمسة عشر قرنا..
وان كان من شيء تعلمته من قصص جول فيرن فهو اننا سنترجم الخيال العلمي الى عمل واقعي سياسي .. فسنضع المشروع الغربي وهيئاته في قذيفة مدفع سوري ونسدد نحو الثقب الأسود .. وعندما يقول الرئيس الأسد .. ناااااااار .. ستقوم ديمقراطية أثينة من جديد .. ولكن من دمشق .. فلتدافعوا عن ديمقراطية أرسطو وسقراط وأفلاطون التي نراها بكل عفويتها في مظاهرات تملأ شوارع المدن السورية التي تهتف للجيش السوري ضد ديمقراطية شايلوك ومحمد بن عبد الوهاب .. وديمقراطية فرانسيس فوكوياما..وديمقراطية الضفادع ..وديمقراطية الله أكبر.