ديوان خليل مردم بك إنعاش الذاكرة...صاحب النشيد السوري وألق الشعر الوطني العذب

ديوان خليل مردم بك إنعاش الذاكرة...صاحب النشيد السوري وألق الشعر الوطني العذب

شاعرات وشعراء

الثلاثاء، ٣١ مارس ٢٠١٥

إسماعيل مروة
خليل مردم بك، الشاعر السوري، المجمعي العالم، رئيس المجمع النشيط، الوزير البارز، السياسي البارع، كلها صفات يمكن أن تسبغ على هذه القامة الشعرية والسورية، إذ لم يكن الخليل شاعراً وحسب، بل كان عالماً وباحثاً ومحققاً، اعتنى بالشعراء القدامى، وقدّم دواوينهم التي لم تكن لترى النور في وقت مبكر لولا مسعاه وجهده، وفي الوقت نفسه كان شعره ينداح إلينا، ليقدم الصورة العذبة، والقافية المتمكنة، والارتباط المميز بالأرض والوطن، طبيعة وانتماء لا يدانى.
وبعد أكثر من نصف قرن على رحيله وصدور ديوانه بعد الرحيل، يعود ديوانه للصدور بحلة قشيبة وعناية وتدقيق، وذلك في ردّ الجميل لشاعر الخليل الذي أعطى سورية نشيدها الوطني نردده عند كل صباح، ونجعله ترتيلتنا عند كل مساء.
 
الشاعر والديوان
طبع ديوان خليل مردم بك أول مرة مجموعاً 1960 بعد رحيله في عام 1959 وقد انبرى علمان من أعلام سورية ومجمعييها للتقديم للديوان والشاعر وحياته، كما اعتنى بالطبع والمراجعة ولده الشاعر عدنان مردم بك، ومنذ أيام صدرت طبعة علمية جديدة عن دار البيّنة ومجمع اللغة العربية، وبإشراف مجمعي، وقد تولى الإشراف على هذه الطبعة الأستاذ المجمعي مروان البواب، والذي حرص حرصاً شديداً على علامات الطبعة الأولى ومقدماتها، وكل ما حمّل نفسه به هو إخراج الديوان- ما أمكن- بعيداً عن الأغلاط المطبعية والاستدراكات وجداول الخطأ والصواب، هاضماً عمله ودقته لمصلحة الديوان الذي يحمل قيمة إضافية فوق الشعر، فهو ديوان السياسي البارع وصاحب النشيد السوري الذي نصدح به في كل وقت وحين.
قدّم للديوان علمان جليلان من أعلام المجمع هما الدكتور جميل صليبا والدكتور سامي الدهان، وهما علمان من أعلام سورية والأدب، ومن القامات التي تعني شهادتها الكثير لمن يحظى بها، وهما المخلصان للعلم وطلبته وطرائقه، وخصّ الدكتور الدهان مقدمته بالحديث عن خليل مردم بك وحياته، وجاءت تالية، وحقها التقديم في هذه الطبعة، لأنها تقدم صورة علمية ووجدانية عن الخليل... يحدد حديثه ومكانة شاعره «في الحادي والعشرين من شهر تموز 1959 قضى رئيس مجمعنا العلامة الشاعر الأستاذ خليل مردم بك.. كان الخليل نموذجاً رائعاً من رجال البيان لصدر هذا العصر في أدبه وإنتاجه، يُكزّ بالفحول من الشعراء في مصر والعراق ولبنان، ويلحق بكبار الأدباء من الصفوة المختارة، رفع اسم بلاده عالياً، وقضى حقها كاملاً، وناضل في سبيلها كل حياته، فأصبح منارة يستضيء بها الجيل الصاعد، وغدا أمثولة تحتذى وسيرة تقرأ..».
ثم عاد الدهان للحديث عن ولادته ودراسته على علماء الشام، وعن نشاطه الثقافي في إقامة منتديات وجمعيات، وعمله المبكر في النشر والعناية بالتراث، وعرّج على نشاطه الصحفي الأدبي الذي بدأ عام 1933 بمشاركة أصدقائه العلماء جميل صليبا، كاظم الداغستاني، كامل عياد.
ومن إيمان الدكتور الدهان بأهمية العمل العلمي يشير إلى التحاق الخليل بالحكومة بعبارة غاية في الدقة: «في سنة 1942، شاءت الحكومة أن تختطف العلامة الأديب من جدران المجمع لتجعله وزيراً للمعارف في ظروف قلقة، فترك ما بين يديه إلى حين..».
وبعد انتهاء مهمته يقول: «منذ سنة 1946 أصبح العلامة الشاعر يحيا حياة جديدة أحبها منذ صباه وهي العكوف على المصادر القديمة، وإحياء الشعر الشامي يترنم به ويتغنى، ويبحث وينقب..».
ويذكر من أعماله وتحقيقاته القيمة «ديوان ابن عنين الدمشقي، ديوان علي بن الجهم، ديوان ابن حيوس، ديوان ابن الخياط» ثم يذكر المجامع التي شرفت بعضوية الخليل لها داخل البلدان العربية وخارجها، وهي كثيرة نظراً للاحترام الذي ناله من العرب والمستشرقين كما يشير الدهان.
ويعود إلى السياسة بحسرة ليقول، في سنة 1951 عادت إليه الحكومة السورية لتدعوه إلى تسنم منصب وزير مفوض، وفي سنة 1953 اختير وزيراً للخارجية، وبعدها يتفرغ الخليل لصومعة الأدب والتحقيق والشعر والنشر والمجمع.
 
الإنسان وشعره
الدكتور العلامة جميل صليبا صديق الخليل، ورفيقه في رسالة الصحافة الأدبية يكتب مقدمة عن الخليل الإنسان وشعره وتفوقه في بعض الميادين الشعرية، خاصة في الوصف وما يتعلق بالغوطة الأثيرة لديه، ومن أقدر من الصديق المعاشر في جلاء صورة الإنسان الشعرية؟
«إذا ذكر خليل مردم بك ذكر معه الصدق، والوفاء، ولطف الأخلاق، والإباء، والمروءة، فقد كان زكي النفس، حسن العشرة، صادقاً في قوله وعمله، متودداً محبباً إلى كل من يكلمه، وكان صاحب أخبار ونوادر، وله معرفة بأحوال الناس، وهو كاسمه خليل وفي، لم يقدم نفسه على غيره في النفع، ولا تعاطى أمراً إلا وجاء فيه مبرزاً» هكذا يشهد الصديق لصديقه، وإن دلّ هذا على شيء، فإنه يدل على مكانة الرجلين معاً لا مكانة أحدهما، فكلاهما يرى صاحبه بالعين نفسها، لذا كانت هذه الشهادة الجامعة في خليل مردم بك، والتي لم تترك إيجابية إلا وجاءت عليها.
ويسجل صليبا للخليل رأيه في السياسة في أثناء توليه الوزارة، وتفضيله العلم على الاشتغال بالسياسة فيقول:
«وظل يقول الشعر كل أيام حياته إلا في زمن تقلده الوزارة، ولم يكن يعنى بالسياسة عنايته بالعلم والأدب، قال:
أنا لست أعنى بالسياسة إنما
هي نفثة من ذي جوى منهوك»
فبشهادة صديقه كان الخليل يتوقف عن الشعر في زمن الوزارة لأن ما يحمله من مهام يقف حائلاً بينه وبين الشعر، هكذا كان الرعيل الأول الذي ينسى نفسه عندما يتولى المهام، لأنه يعطي ذاته للوطن والمهمة، فهل وقف أحدنا عند من لا يعرف مسكة من أدب وشعر، وعندما يتسنم منصباً يصبح أديباً وشاعراً وباحثاً؟! لنا أن نسأل ونتساءل ونضع إشارات استفهام حول طريقة أداء المهام، وحول الأدب ومنتجه الحقيقي لأصحاب المواقع والمناصب، هذا باستثناء المذكرات!!
 
من شعره ورؤيته للشعر
بعد هذه الجولة الضرورية للتعريف بشخصية أدبية وسياسية وشعرية ومجمعية يحسن أن نقف عند بعض شعره لإعادته إلى ذاكرة القارئين، ولإطلاع الشباب الذين لم يقرؤوا هذا الشعر من قبل على شعره، وها هو يعرف الشعر نفسه في قصيدة فيقول:
إذا الشعر لم ينفث به ربه السحرا
لعمر القوافي الغرّ ما فقه الشعرا
فلم يبق بعد الوحي من نبأ السما
إلى الأرض غير الشعر معجزة كبرى
فإن لم يكن صوغ القوافي سجية
فليس بِمُجْدٍ أن تخوض لها البحرا
إنه الشعر الحقيقي، شعر الطبع والشاعرية، لا شعر النظم والعادة والصنعة ولدمشق يقول:
أدمشق ما للحسن لا يعدوك
حتى خصصت به بغير شريك
أشغفته حباً وتمتِ فؤاده
فغدا بكل طريفة يصفيك
سبحان من أعطاك أشهد أنه
وفّى وزاد بِسَيْبه معطيك
فبرزت للأبصار أروع مظهر
في الحسن والإبداع من باريك
وللوطن والشهداء والاستقلال يقول:
وطني تقدس في الورى استقلاله
شهداؤنا ودماؤهم قربانه
فتعطرت بنفوسهم أجواؤه
وتخضبت بنجيعهم قيعانه
دمع الثكالى كان لؤلؤ تاجه
ودماء من نبكيهم مرجانه
يصعب أن نحيط بديوان خليل مردم بك، ولكن يكفي القارئ والناقد أنه عندما يقرؤه يقف أمام شاعر شعره كنثره لا يتكلف، ولا يطوّل قصائده، فمنها ما كان طويلاً، ومنها ما كان مقطعات حسب مقتضى الشعر والحالة.
وأختم بالإشارة إلى النشيد العربي السوري الذي يبقى مخلداً للشاعر المرتبط بأرضه ووطنه واستقلاله وإنسانه، لم يجد لغير أرضه، فاكتسب احترام الجميع القاصي والداني.