أيا قديستي الحلوة...الأمومة مشيمة وتراب وطن...لم يكبر أمام الأمومة... ويخجل من دمع أمه

أيا قديستي الحلوة...الأمومة مشيمة وتراب وطن...لم يكبر أمام الأمومة... ويخجل من دمع أمه

شاعرات وشعراء

الأربعاء، ٢٥ فبراير ٢٠١٥

إنها هي، القداسة التي لا تصل إليها قداسة.. إنها الأمومة والخصب والخلق، إنها الإنجاب والرعاية، إنها المفهوم المحسوس الوحيد في حياتنا الذي يعبر عن المجرد والفكر المجرد، إنها الأم التي تختلف عن أي مخلوق، تصافح، تسمح، تضطهد، تنتهك، تغتصب، تشتم، تمجّد، تقدس، وعندما يبحث أحدنا عن ذاته تكون هي الفعل والقداسة ومثال الألوهة.
 
كل الألقاب تليق بها، ما من لقب إيجابي إلا لها، حتى اللغة عندما تصفها بالإيجاب تصفها بتأنيثها، وأي لقب غير لائق لا يكون بتأنيثها، لقداستها تباركت بها الأديان، وربطت بينها وبين العبادة الحقة، حاول المرء الذكر وفكره أن يسلبها محاسنها ويرميها بتفاحته.
 
فتحولت بفعل الحقيقة إلى الألوهة المنجبة، كل شيء يرتبط بالجائزة إلا هي، لا تحتاج إلى جنان يصل إليها المرء من تحت قدميها، فهي الجائزة وليست طريقاً للجائزة، فلزوم قدميها واجب للتقدس بالقدمين لا للوصول إلى جائزة، فبعد قدميها لا جائزة...
وحدها الأم يتوسل بها ولا تكون طريقاً للوصول، وحدها هي الخاتمة لكل شيء، مع وجودها تتعطر الحياة، ومع رحيلها يفقد الإنسان أي عطر، ويفتقد نكهة الصوت الرحيم الخفيض العميق، يفتقد الدمعة المطهرة، يفتقد الرحم المنجب، وحدها إن أنجبت طبيعية أو قيصرية تُخرج ابنها بالأحشاء ليحمل مشيمته بالمشيئة..
أماه ما لون الضياء؟
أماه ما طعم الحياة؟
أماه ما بعد المسافة؟
أماه ما عمق الألم؟
وحدها لا تسلم ابنها للعمى وللموت والمجهول والألم
وحدها تستقبل الألم بروحها
وحدها لا يفكر الابن بجمال جسد ورشاقة قوام
وحدها أطهر المخلوقات وأسماها وأكثرها جمالاً
وحدها الأطيب ريحاً وطعاماً ويداً
وحدها الأزكى التي تحمل لون الأرض وطهرها..
يالبقائها.. يا لرحيلها..!
بقاؤها حياة، ورحيلها حياة، حياة معها، حياة بها، حياة لأجلها
لها قال جبران وما أبدع ما قال، وما أقل ما نسترجع قوله: «الأم هي كل شيء في هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف، هي ينبوع الحنو والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدراً يسند إليه رأسه، ويداً تباركه، وعيناً تحرسه..
لم يبحث جبران عن جائزة، فكانت الأم هي الجائزة والخاتمة، هي الصدر واليد والعين، هي كل شيء لأنها تستحق العناية بذاتها ولذاتها، ومن ذات الابن ولذاته، فهل فقد أحدنا أمه؟ وهل تخضع فكرة الأمومة للفقد والرحيل؟ كلما جاء اسمها، كلما مرّ ذكرها، سواء رآها ابنها وحرسته، أو رحلت قبل أن تحرسه تطفر الدموع من عيني الابن مهما كان صلباً وقاسياً ويتحول إلى طفل لا يقوى على رفع يديه لمسح دموعه، وينتظر طويلاً لتمّد الأم يدها، وحين يعجز، تخرج كفاه من رحم الأمومة لمسح سيل الدمع المنهمر، فالأم تجوهر العين وتعيدها إلى الألق والصفاء.
 
الحنين إليها
نبي الشعر العربي المتنبي، قالوا فيه ما قالوا، وتحدثوا عن علاقته بأمه وأبيه وجدته، ومن جدته إلى أمه إلى فعل الأمومة يضرب المتنبي أمثولته التي لا ترتبط بجائزة موعودة بقدرما ترتبط بافتقاد:
أحنّ إلى الكأس التي شربتَ بها
وأهوى لمثواها التراب وما ضمّا
لشراب لا يحلو إلا من كأس تناولته شفتاها المقدستان، ولتراب حصد قداسته من ضمه لجسد الأمومة وفكرها، يحن المتنبي متجاوزاً كل ما يفكر به، وكل ما فكر به الآخرون ولم يكن أو كان!
هي التي تطهر كل شراب وكأس، وكأنها تعود إليه لتسقيه وتطعمه، وتلعق ما علق على شفتيه، بينما عجز هو عن فعل ما فعلت واكتفى بالحنين إلى ما حفظه عنها وعن فعلها ولم يدرك عمقه وكنهه وطبيعته!
إنها الأمومة الحقة التي تصرف نفسها لولدها وحبها، تصفح وتسامح وتغفر، تقبل ما لا يقبل كرمى للمشيمة التي تراها أمامها، فكم من إساءة احتملت، وكم من طبع خارج عنها قبلت من أجل أمومتها.. هي صورة الألوهة المحسوسة التي لا يمكن أن تكون إلا رحمة وهدوءاً وحباً، وعندما تطمئن إلى أن المشيمة صارت مشيئة تغادر لتعود إلى خصوبة الأرض غير المحدودة لتزرع فيها خصوبتها وتعود من جديد روحاً تنزرع على جبين ولد ظنّ لجهله أنها غادرت ولم يدر أنها تسكنه، وأنه سيأتي صباحاً لشرب قهوته معها، وأنها هناك تعدّ قهوتها وتترك لولدها كرسياً فارغاً ليجلس وليلتهم شرابه معها..!
هي التي تجلس عند رأس الطاولة لتشير له بعينيها أن يهرع إلى صدرها ليأخذ ما يستحق من دلال!
هي التي تجعله يغضب ويثور ويفعل ما ليس من طبعه!
لأجلها يفعل كل شيء وهو لا يدري أن مشيمتها تطوقه.
 
القديسة الحلوة
قداسة قديس وحلاوة امرأة هي الأم، لا يرى ما يدانيها، فكل همسة كتاب مقدس، وكل التفاتة فتنة امرأة وأم، يكبر ولا يدري ما يحدث، وعندما يهتم بها يصيبها الهم لأجله، قامته طويلة لكنها تزداد طولاً عندما ينحني على قامتها القصيرة، يداعبها، يعاتبها لقصرها فتضحك منه وله، وتقبل ما يبدو منه، ولكنه يردد مزمور نزار قباني لأمه من غربة حرمته الكثير من عبق الأمومة:
صباح الخير يا حلوة
صباح الخير يا قديستي الحلوة
مضى عامان يا أمي
على الولد الذي أبحر
رحلته الخرافية
وخبأ في حقائبه
صباح بلاده الأخضر
وأنجمها، وأنهرها، وكل شقيقها الأخضر
وخبأ في ملابسه
طرابيناً من النعناع والزعتر
وليلكة دمشقية
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب
وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصغر
ولم أعثر
على امرأة تمشط شعري الأشقر
وتحمل في حقيبتها
إليّ عرائس السكر
وتكسوني إذا أعرى
وتنشلني إذ أعثر
أيا أمي
أيا أمي
أنا الولد الذي أبحر
ولا زالت بخاطره
تعيش عروسة السكر
فكيف... فكيف يا أمي
غدوت أباً
ولم أكبر؟
الأم وطن، الأم أرض، الأم ورود الوطن، والويل الويل لمن لا يراها وطناً، والويل الويل لمن حرم أن يشتم عبيرها، وأن يودع عطرها وورودها لأنه لم يفكر بالوطن الأم، ولم يستشعر أنها الوطن بذرات ترابه، فحرم من ترابها وترابه!
وحده نزار كانت أمه الشام والوطن
الورد والعبير
عروسة السكر
وحده الذي تجرأ أن يعبر عن عجزه أمامها، وأن الكون كله لا يساوي شيئاً أمامها، وأن كل سني حياته لم يمر بها، ولم يكبر لحظة واحدة في غمرة الحنين الطافح إليها وإلى أشيائها، وإلى قداستها وإلى جمالها المدهش الذي لا يستطيع تفسيره، وبالتالي لا يستطيع تفسير أنها الأم التي أنجبته وكانت الوعاء الذي احتواه، والإله الذي أطلقه للعالم كله، وهو يربطه بحبل سرته المقدس، وكأني بنزار يطوف في مفهوم الأمومة ليربط ما بين الكائنات وفعلها من قطة أبيه إلى فيروز عينيه إلى مآذن دمشق والأموي التاريخ والوطن.
مضى عامان يا أمي
وليل دمشق... فلّ دمشق
دور دمشق.... تسكن في خواطرنا
مآذنها تضيء على مراكبنا
كأن مآذن الأموي
قد زرعت بداخلنا
كأن مشاتل التفاح
تعبق في ضمائرنا
كأن الضوء والأحجار
جاءت كلها معنا
أم ووطن، لا يكون أحدهما دون الآخر، فلا إكرام لوطن بلا أم، ولا قداسة لأم بلا وطن، فصارت كل الشعائر والشعارات علامة الأمومة، والأمومة وحدها كانت طريقة لمعرفة الشام وحبها وتقديسها، وللعودة إلى الوطن بحجارته وعمارته... إنها الأم، إنها الوطن تعيدنا إلى رحمها، إلى رحم الوطن والأرض والتراب، مهما شردنا، مهما ابتعدنا نلتصق بقدميها لأنها الجنة الموعودة، وليس لأنها الطريق إلى الجنة، نمرّ على مقامها بين الأولياء والقديسين والصالحين، ندخل من الباب الصغير لنجد أنفسنا قد خرجنا إلى العالم الفسيح، عالم الأمومة الأكبر...
إنها الأم العالم الذي نعجز عن تفسيره
نعجز عن قراءته
إنها حنين درويش إلى تفاصيلها وإلى الترب
أحن إلى خبز أمي
وقهوة أمي... ولمسة أمي
وتكبر في الطفولة
يوماً على صدر أمي
وأعشق عمري لأني
إذا مت
أخجل من دمع أمي
خذيني إذا عدت يوماً
وشاحاً لهدبك
وغطي عظامي بعشب
تعمد من طهر كعبك
وشدي وثاقي
بخصلة شعر
بخيط يلوح في ذيل ثوبك
يحن، يخاف، لا يكبر، يسمو، يعلو، يكرّم، يتعمّد بدمعها، وتبقى متوشحة بوشاحها ترقب من نافذة بعيدة بعيدة ما خرج منها وما لم يخرج ودعواتها تخرج من شفتيها..
لا شفاه إلا لها
ولا دعوات إلا منها
ولا قداسة إلا لقدميها
فابدأ من أطراف أصابع القدمين لتصل إلى خصلات شعرها الشائبة.
وحدها تبقى ألقاً في روحك
أجمل الصباحات مع قبلة أم
وأقسى الصباحات أن تستيقظ بلا قلب بلا أم.