جهاد بكفلوني شهادة الجواهري وشعر معتّق

جهاد بكفلوني شهادة الجواهري وشعر معتّق

شاعرات وشعراء

الأربعاء، ٢١ يناير ٢٠١٥

هذا مقام أبي العلاء وحوله            للوافدين تحشّد وزحام
شعر على الأسماع يعذب وقعه        فتهب تنشر طيبه الأنسام

التقينا أول مرة في خواتيم عام 1986، انحزت إليه فهو أشبه ما يكون بصديق لي في المرحلة الثانوية، كان لطيف المعشر، طيب القلب، كريماً، مبتسماً دوماً، هو صديق دراستي غياث محمد، فقد بدأت معرفتي به عام 1975، وافترقنا عام 1985 وهو على حاله وداً وطيبة، وفي مكتب الدكتور أسعد علي التقيت الشاعر جهاد طاهر بكفلوني، الذي تعمقت علاقتي به، وبقينا على تواصل ترتفع وتيرته وتنخفض حسب الظروف والأسفار والعمل، لكنه بقي ذلك الصديق الذي يشبه أطيب صديق عرفته في دراستي، وعلمت فيما بعد أنه قد غادر دنيانا، وكم أسفت لأنني لم أتمكن من رؤيته ووداعه وشكره، ولا أنسى لذلك الصديق عندما أراد بعض الزملاء الاعتداء عليّ في الإعدادية وأنا الغريب عن بلدهم كيف أخفاني وراء جسده، وتلقى الضربات عني، وحين انتهت المعركة ابتسم ببراءة الطفل وهو يتأكد بأنهم لم يصلوا إليَّ بسببه.
جهاد أو الدكتور الشاعر جهاد بكفلوني فيما بعد كان من الطينة ذاتها طيبة وحباً، وحين التقيته عرفت أنه شاعر، لكنني لم ألتفت للأمر كثيراً، فكل الطلاب يدّعون الشعر في السنوات الأولى من دراستهم الجامعية، وربما أدرك جهاد ما أفكر به، فدعاني إلى حضور أكثر من لقاء شعري يلقي فيه شعره، ولا أزال أذكر تفاصيل الحوارات، وكيف كنت أقابل جموحه واعتداده بشعره، ولكنه لم ينزعج، وفي 29/1/1987 وجدت جهاد يقدم لي ظرفاً ويمشي، كان الظرف محتوياً ديوانه الأول (أول الغيث) الذي صدر في ذلك الشهر، وكانت كلماته (مع الأماني الصادقة أن تنال كل ما تتطلع إليه النفس) فوجدت أن كلماته من رتبة أشعاره، وأكبرت روح هذا الصديق الذي كنت أسبقه بحكم السن في الدراسة، لكنه سبقني بالشعر وروحه وبالجرأة في نشر أشعاره، وأسجل هنا للصديق جهاد أن ديوانه كان وراء جرأتي وحماستي لجمع أوراق أول دراسة نشرتها، فقد أردت أن يصدر كتاب يحمل اسمي مثله، وكان ذلك وفي العام نفسه.
كنت ولا أزال ميالاً إلى الشعر الحقيقي، ولا يعنيني الشكل الشعري بقدر ما تعنيني روح الشعر، وكلما سمعت أشعار جهاد أسمع شاعراً متمكناً وقوياً، ولكنني كنت أناقشه في أمر القصائد الطويلة وفي استخدام اللغة العالية التي تدل على علوّ كعب الشاعر لكنها تبعده عن الجمهور الذي يتوجه إليه الشعر، وعتبت مرات من أجل شعر المناسبات وفي كل مرة كان جهاد يستمع ويرد، يقتنع ويحاول أن يقنع، لكنه ومن خلال تمكنه الشعري واللغوي ذهب بعيداً، وحافظ على نهجه وخطه، وأصدر دواوين عديدة، كلها لها علاقة بالمطر والماء والغيث ولم يلتفت يومها صديقي إلى أمنيتي بالاقتراب من الشريحة المستهدفة، وأظنه لو فعل وهو من هو في معرفة الشعر وفنونه وضروبه ومحفوظاته لكان شعره على كل شفة ولسان، لكنه آثر أن يحتفظ بنهجه وهويته إلى اليوم، وأظن أن الظروف التي ولدت فيها شاعرية جهاد هي التي وضعته في هذه السوية اللغوية والشعرية لا يبرحها ولا يتخلى عنها!
الجواهري، محمد مهدي الجواهري، جوهرة الشعر العربي الحديث هو من كتب مقدمة أول دواوين جهاد الشعرية، وماذا بعد الجواهري؟ عندما يكتب الجواهري شهادة، فمن الصعب على من كتب عنه أن يحيد عن هذه الشهادة «توسمت فيك كل ما يصحّ لشاعر سابق أن يتوسمه في نجم صاعد لاحق، وإنني لفخور وأنا أتصفح مجموعة أشعارك الجديدة هذه والتي تنضح بروعة الأسلوب، ووضوح الفكرة وحلاوة النغم، بسلامة توسمي، وصحة تفرسي.. أريدك أن تظل- وأنت الكفؤ الجدير- جاهداً وصاعداً صاعداً، وبوركت أيها النجم الصاعد، وبوركت موهبتك الواعدة» هذا مما قاله شاعر العرب محمد مهدي الجواهري في جهاد قبل ثلاثين عاماً من اليوم، وبقي جهاد شاعراً مجتهداً وصاعداً، وبقي يصنع الصور وينظم الشعر، ولكن الحياة وتكاليفها يمكن أن تبعد المجيد عن موقعه بحكم الظروف، وما قام به جهاد خلال حياته العلمية والعملية أبعده عن الإخلاص للشعر وصناعته، بقي صاعداً مجلياً، ولكن الإخلاص للشعر الذي لا يقبل شريكاً كان محالاً له كما كان لغيره من الشعراء، وأزعم أنّ صديقي جهاد يعرف هذا الكلام جيداً ويعانيه، ويتقبله من صديق يرى الإبداع أكبر من أي محطة في حياة من ملك موهبة الإبداع، ولكن شريطة التفرغ الذي لا نعطيه بالنا لخلق مبدع حقيقي.
تميز شعر جهاد بكفلوني باللغة التي جمعت بين الشاهد الجواهري والمشهود له، فالألفاظ قوية، والأسلوب من عمق شاعرية العصر العباسي، والصور منحوتة بعناية فائقة تحاكي صور صناع الشعر، ورموزه تستمد من التاريخ ألقها ومن المجد الغابر مضامينها، فها هو يخاطب الشام وقاسيونها، وكأننا أمام شاعر من فحول العصر العباسي:
أجنة الخلد هذي الشام أم عدن؟
طوبى لمن درة الدنيا له وطن
المجد يشمخ في أنحاء غوطتها
وللفخار على أرجائها سكن
طبيعة كل من في الكون يعشقها
ومعقل تتعب الدنيا ولا يهن
أنى التفت رأيت الحور ضاحكة
والورق تصدح حتى يرقص الفنن
تبسم الغصن لما حله غرد
وصفق الطير لما ضمه الغصن
ومن رأى بردى ينساب مغتبطاً
لم يبق في نفسه هم ولا حزن
وساكن الشام يلقى في مرابعها
نعمى تدوم فلا شكوى ولا شجن
في قاسيون رأيت السيف ممتشقاً
وليس في حده ضعف ولا وهن
ومن قصيدة عذبة جوابية على رسالة وردته:
سكرت بما أبدعت من أعذب النثر
ورحت أعب اللفظ أشهى من الخمر
ورود من الألفاظ يحلو قطافها
فما شئت من ريّا تفوح من الزهر
تمليت ما فيها من النرجس الثرّ
فألهمني نظماً يتيه على الشعر
معان إذا مرت على الجاحظ انتشى
بما تحتوي من خالص الماس والدر
أراك اتخذت الشمس أرفع منزل
فوا عجباً ماذا ستبقين للنسر؟
وأمام أبي العلاء المعري وفي مهرجانه يقول:
هذا مقام أبي العلاء وحوله
للوافدين تحشّد وزحام
استعصموا بالقبر حتى خلتهم
حرماً لهم بالكعبة استعصام
فهنا ثوى رب القصيد وقبره
بيت لكل النابغين حرام
يا شاعراً هزّ الوجود بشعره
فمضت مفاخرة به الأعوام
شعر على الأسماع يعذب وقعه
فتهب تنشر طيبه الأنسام
ويحافظ جهاد على لغته حتى في وجدانياته:
عباءة الليل لفت بالدجى الأفقا
وأوصدت بغيوم الظلمة الطرقا
نادى وفي الصوت أنات مسعرة
تعلو وأصداء همّ توقظ القلقا
لا تخنقي الرنة العذراء في وتري
دعي صداها على روض الرؤى غدقا
هل الشروق رحيل لا رجوع له
أم لمعة لسراب تخدع الحدقا؟
عباءة الليل ما أعتى أعنتها
ما ضيعت مرة للرعب مفترقا
ويستلهم إلياس أبي شبكة وأفاعيه في الحديث عن الخائنة:
أنت شيطانة تراءت ملاكاً
وتوارت في زحمة الضوضاء
انفثي يا أفعى السموم لهيباً
لأعاني من ناره الحمراء
ألفت جمرة العذاب ضلوعي
تتلظى في صبحها والمساء
كنت اصفى من دمعتي حين أجلو
متحف الدمع مزهراً ببكائي
تستحمين في ارتعاش جفوني
شمعداناً مقدس اللألاء
إنه شاعر حقيقي ومتمكن، وصدقت فيه نبوءة الجواهري، وللملاحظة فإنني حرصت على الاختيار من ديوان الشاعر الأول ولم أتجاوز إلى دواوينه الأخرى لجلاء هذا الشعر وخصوصيته صورة ولغة وأسلوباً، فمتى يكون الشاعر شاعراً فحسب؟!