مع الشعر والكبرياء...زكي قنصل من يبرود إلى الأرجنتين حكاية حياة وانتماء

مع الشعر والكبرياء...زكي قنصل من يبرود إلى الأرجنتين حكاية حياة وانتماء

شاعرات وشعراء

الأحد، ١١ يناير ٢٠١٥

لم يكن زكي قنصل شاعراً عادياً، ولم يكن منتمياً انتماء عادياً لسورية والوطن العربي عموماً، فالشاعر كان من الطراز الفريد في أداء رسالة الشعر والأدب في الداخل والخارج، فقد خالجته موضوعات الغربة، وخالطته وعانى من الغربة ما عانى، وهو الذي هاجر مع أسرته قبل أن يصل إلى الخامسة عشرة، ولكنه تميز عن غيره من الشعراء بأنه لم يرحل وحده بمفرده كما فعل شعراء المهجر الآخرون، ولكنه هاجر مع أسرته، فهو أحد أفراد أسرة مهاجرة لها من يعيلها ويقوم على شؤونها، ومن هذا الجانب نجا شاعرنا مما وقع الآخرون به.. هاجر مع أسرته، وحين شبّ عمل في التجارة وكسب منها وعاش دون أن يحتاج إلى أحد، ودون أن يشكو فقره كما فعل الشعراء الآخرون.
 
ولد زكي قنصل في يبرود بريف دمشق عام 1916، وذلك في عز الوقت الذي عانت فيه الأمة وسورية من حركة التتريك والتجنيد، ولصغره لم يقف عند ويلات تلك المرحلة، وبعد أن دخل الفرنسيون سورية بتسع سنوات عزمت أسرته على الهجرة إلى الأمريكيتين، ويلاحظ القارئ أن قنصل ينتمي إلى جبال القلمون في سورية، وغالبية الهجرات التي تمت في بداية القرن العشرين كانت من هذه المنطقة، فأغلب السوريين الذين يعيشون في المهجر إلى اليوم ينتمون إلى هذه المنطقة الجغرافية الملونة دينياً وطائفياً، فالظلم كان يقع على المنطقة لا على شريحة محددة، لذلك كانت الهجرات من الشرائح كافة ومن الانتماءات المتعددة، وتستحق الدراسة والعناية هذه الظاهرة في كون المهجريين في الأمريكيتين في غالبيتهم من منطقة القلمون، ومن مدينة يبرود تحديداً، فهل للجغرافية دور في هذه الهجرة؟ وهل لنفسية أبناء المنطقة دور؟ وكيف استطاع هؤلاء أن يستمروا في هجرتهم إلى اليوم؟ وكيف كان ارتباطهم بأرضهم ووطنهم؟ فهم ينتمون إلى مدنهم ووطنهم انتماء حقيقياً وقوياً، وقد مثله زكي قنصل خير تمثيل، فهو هاجر مع أسرته إلى الأرجنتين، وعمل في التجارة وقال الشعر، ونشر شعره في الدوريات الصادرة في الأرجنتين والبرازيل، وفي الوطن العربي، ومنها مجلة (الكرمة).
أصيب زكي قنصل مبكراً بوفاة ابنته سعاد التي خصّها بمجموعة شعرية كاملة صغيرة حملت اسمها «سعاد».
ترك زكي قنصل مجموعات شعرية ونثرية عديدة: شظايا 1939، الثورة السورية 1939، سعاد 1953، تحت سماء الأندلس 1965، نور ونار 1970، عطش وجوع 1974، المتنبي في ذكراه الأربعين بعد الألف 1976، ألوان وألحان 1978، هواجس 1981، في متاهات الطريق 1984، ديوان زكي قنصل 1986، سداسية الوطن المحتل، أشواك 1993. وقد طبعت أشعاره في وزارة الثقافة السورية، وترجمت أشعاره إلى الإسبانية ونشرت في دوريات أرجنتينية.
لم ينقطع تواصل زكي قنصل مع وطنه، فبعد عقود من هجرته إلى الأرجنتين عاد زكي إلى الوطن ويبرود عام 1984، وبقي على تواصل مع وطنه وأهله ولغته وقضاياه وتواصل مع أدباء سورية في الداخل والخارج، وشارك في لقاءات شعرية عديدة، ونال التقدير من المجتمع الثقافي ففاز بجائزة ابن زيدون للشعر، وفاز بجائزة جبران خليل جبران الأدبية، ونال جائزة إذاعة بي بي سي العربية بلندن، ونال جوائز وتكريمات في دمشق منها جائزة مجلة الثقافة لصاحبها وصديقه مدحة عكاش الذي جهد كثيراً واجتهد في إبقاء زكي قنصل في الصدارة الأدبية في مجلته.
انطفأت شعلة زكي قنصل عام 1994 في بوينس آيرس ودفن هناك بعيداً عن وطنه الذي أحبه وبقي على تواصل معه حتى سنواته الأخيرة، لكنه الوطن الذي اختاره زكي قنصل وأحبه حتى الغاية.
وديوان (سعاد) الذي كتبه زكي قنصل بابنته لم يكن ديوان رثاء فحسب، بل كان راصداً لحياة ابنته سعاد من ولادتها حتى وفاتها، وقد اخترت هذه المقطوعة التي تظهر ابتهاج الشاعر بالمولودة القادمة.
ضحك الصباح فقلت لو
لاها لما ضحك الصباح
أهلا عروس الفجر
أهلا بالصباحة والصلاح
هاض الأسى جنحي فلمـ
ـا جئت طرت بلا جناح
وتكاثرت فيّ الجراح
فكنت برءاً للجراح
أسعاد هل أحلى من
اسمك بين أسماء البشر؟
لكأنه أهزوجة نشوى
على شفة الوتر
لكأنه نجوى النسيـ
ـم يهز أعطاف الشجر
لكأنه قبل الندى
تنساب ما بين الزهر
يا قرة العينين غنـ
ـي واضحكي وتهللي
وتدللي ما شئت يـ
ـا أولى فراخ البلبل
ما الحب لو تدرين إلا
للحبيب الأولي
 
ومن شعره الغزلي المعروف، والذي ينحو منحى التقليدية، تلك القصيدة التي يتغنى فيها بجمال المرأة على اختلاف اللون والجنس، وفيها طرافة تظهر فتنة الشاعر بالجمال وسعيه لأن يغب من الحياة ما شاء له الهوى.
قالو تحب الشُقر؟ قلت وأشتهي
لو مت في حِضن الجمال الأشقر
والسمرَ؟ قلت وكيف لا يغرينني
وقصائدي من وحي خدٍّ أسمر
والحُمْر؟ قلت وهبتهن حشاشتي
روحي فدى الورد الندي الأحمر
والصّفر؟ قلت قلائد ذهبية
تزهو على صدر الأصيل الأصفر
والسود؟ قلت وكيف أنزعهن من
قلبي وهن حلاوة العيش الطري؟
 
وقد شارك قنصل الانتفاضة التي شهدها، فتغنى بطفل الحجارة وسجل مآثره وبطولته في مواجهة المحتل الصهيوني الغاصب.
أطلق رصاصك.. لا أخاف النارا
إني أرد لك الرصاص حجارا
صدري على الغضب الرهيب طويته
وعلى الندى.. فعليك أن تختارا
ما دمت تلقي الريح في بيّارتي
فلسوف تحصد عاصفا موّارا
لا يسترد الحق إلا عنوة
ماذا إذا انتفض الهضيم وثارا؟
ما جاور السرحان مرعى آمنا
إلا على الحمل الوديع أغارا
عدنان أنجبني، فكيف أعقه،
أو هل أخيب في ثراه (نزارا)؟
 
وللعربية مكان لا يدانى في روح الشاعر وشعره، فهو يخاطب أحباء العربية وحماتها بقصيدة جميلة:
أعلي لواءك فوق كل لواء
فلأنت خالدة، وهم لفناء
نفديك من عدوانهم بقلوبنا
ويهون- مهما جلّ- كل فداء
يا بنت عدنان ارتعي في ظلنا
لا يدخل الفجّار غار حراء
ترعاك عين الله من شر، ومن
خطر.. وعين الله خير وقاء
خسئت مكائد طغمة مرذولة
تسعى لهدم صروحك الشمّاء
مجهولة الأنساب، إلا أنها
معروفة بسفاسف الأهواء