مع الشعر والكبرياء - بدر الدين الحامد رجل «حماة» الوطني وشاعرها والصوفي

مع الشعر والكبرياء - بدر الدين الحامد رجل «حماة» الوطني وشاعرها والصوفي

شاعرات وشعراء

الأحد، ٢١ ديسمبر ٢٠١٤

نموذج من الشعراء المختلفين في كل شيء، شاعر من منبت ديني يغصّ بالعارفين بالدين وأعلامه، شاعر دخل معترك السياسة فقال واعتقل، وأشرف على الهلاك، خرج من سجنه ودخل معترك السياسة، عمل في الوظيفة وارتقى، ارتبط بأعلام الحركة السياسية الوطنية وكان صديقاً ونداً لهم، قال فيهم وخلّدهم، وهم قربوه ما أمكن ذلك، استفاد من انطلاقته الدينية والعلمية، لكنه جنح إلى الطرب واللهو والغناء، فترك آثاراً تدل عليه في مختلف حالاته، من السجن إلى المواقف، إلى اللهو والطرب، وبقي في أذهاننا لتقصير منا ببعض أبيات قالها في الجلاء يوم الاستقلال، في كل عيد للجلاء نلقيها، قد نذكر اسمه، وقد لا نفعل. بدر الدين الحامد ولد في حماة 1896 في خواتيم القرن التاسع عشر، ينتمي إلى أسرة من العلماء الأجلاء الأفاضل، وقد ذاع صيت أخيه العالم محمد الحامد، الذي وصل إلى مرحلة كان فيها من أبرز علماء بلاد الشام، ولم تقتصر شهرته على حماة.
 
أما بدر الدين فقد انتحى جانب الشعر، وقاله صغيراً، فبرع واشتهر، وفاخرت به مدينته حماة، فلقب بشاعر العاصي، وإن أردنا الإنصاف فإن بدر الدين الحامد، وفيما بعد في الفترة ذاتها وجيه البارودي شكلا الجوهر الشعري لمدينة حماة، وخرجا بشهرتيهما من الإطار المديني الضيق وصولاً إلى مختلف أصقاع سورية، كلاهما خرج من بيئة ملتزمة معروفة بالعلم، وكلاهما اختط لنفسه طريقاً مختلفة تناسب رؤيته والشعر الذي هيمن عليه.. من أبي الفداء وتاريخه الذي دوّنه لهذه المدينة، ففاخرت به وحملت اسمه، فصارت مدينة أبي الفداء، إلى بدر الدين الحامد رحلة طويلة طويلة حتى عثرت المدينة على شاعرها الخاص، الذي لم يفد إليها وإنما كان ابناً أصيلاً لها، حملها بين جوانحه، وعلى قوافي قصائده وتنقل بها حيث شاء، فكانت نواعيرها أوزانه، والعاصي بحوره الشعرية والمائية التي أعطته نداوة وحلاوة عز مثيلها. نشأ بدر الدين الشاعر والمناضل الوطني في مدينة حماة، وعاش حياته فيها، لم يغادرها إلا ليعود إليها، ضمن أسرة محافظة عرفت بالعلم والأدب، فقد درس على أبيه العلوم الدينية والقرآن الكريم واللغة العربية، ولم يكتفِ بدر الدين بذلك، وربما شاء له قدر العلم الأسري أن يتابع ليحصل على أهلية التعليم الابتدائي عام 1923 وهي شهادة لها مكانتها في ذلك الحين، ودرس في مدينة القدس في الكلية الصلاحية حين كانت بلاد الشام واحدة لا تفرقها حدود، ولا يمنع أبناءها من التجوال مانع، ولم يمزقها احتلال صهيوني غيّر وجهها.
كان بدر الدين في زهوة شبابه عندما دخل المستعمر الفرنسي سورية، فنهض ابن الثالثة والعشرين شاعراً لا يجارى، وشارك في الحركات الوطنية، وناهض المحتل بشعره السياسي والقومي والوطني، وحارب المستعمر الفرنسي بلا هوادة، بل كان بدر الدين مسيساً ومنتمياً إلى الكتلة الوطنية التي يرأسها شكري القوتلي، وعانى بدر الدين الحامد من المحتل إذ سجن نتيجة لمقاومته وشعره عندما قامت الثورة ضد الفرنسيين في حماة 1925، وكانت مشاركته شعراً وشخصاً واضحة فيها، وحاول الهرب، لكنه أخفق، ما زاد من قسوة سجنه، ومن قهر سجانه له، وناله شتى صنوف التعذيب، ولكن الشاعر بهمته العالية لم يكن يعتني إلا بحرية وطنه، فلم يكترث لألم نزل به، وكل ما يعنيه حرية الوطن السوري، لذلك لم يلجأ إلى المتاجرة بهذه المرحلة من السجن والعذاب، وهو المؤهل علمياً للمنافسة على المواقع والمناصب، بل رأى أن ما مر به من ذكريات سود لا يستحق الوقوف عنده، بل ترك مهمة الحكاية للتاريخ، وها هو بعد أكثر من خمسين عاماً على رحيله لا يعرف أحد حكايته، ولولا أبيات الجلاء السائرة على الألسنة ما ذكر الناس اسمه!
هل كان بدر الدين الحامد على حق عندما تجاهل تجربة سجنه وعذاباته، وترك للتاريخ الرشيد أن يفعل؟ وهل يدوّن التاريخ ويصبح رشيداً إن لم يكن الأبناء هم الذين يتمتعون بالرشد؟ وهل كان الأبناء رشيدين في تعاملهم مع كبارهم بعد الرحيل؟
خرج من السجن فرأى ما حلّ من دمار بالبلاد بسبب ثورتها على الفرنسيين فآلمه ما رآه فوق ما آلمه السجن، وانحاز إلى البكاء، وبقي يرثي البلاد والمدينة حتى عرف بشعره الحزين..
نعم ولا فخراً قدمنا وليس لنا
هوى بغير ظلام السجن والصفد
مالي وللذكريات السود أنبشها
الدهر ينصف والتاريخ في رشد
 
كذلك كان بدر الدين الحامد كبيراً مترفعاً عن الشكوى لنفسه والطلب لها، واكتفى بالبكاء على البلد وما حلّ به من دمار يصعب أن يزول كما كان يراه، ولكن الإنسان أقوى، ومن رائحة الأرض يستمد همته ليبدأ رحلة البناء من جديد، منذ بدء الخليقة وإلى أن تقوم الساعة..
لم يقتنص بدر الدين الحامد فرصة علاقته القوية والفريدة بالرئيس شكري القوتلي الذي كان رئيساً للكتلة الوطنية، وهو أحد أعضائها النشيطين، وبقي على حبه له واحترامه وتوقيره، ولم يهجر مدينته حماة إلى المركز ليكون في موقع أفضل هو يستحقه، بل بقي في مدينته وها هو يستقبل القوتلي بعد الاستقلال:
شكري العظيم زعيم الدار منقذنا
فكل فضل إلى ناديه مرجوع
قف في حمانا وحيّ الرافدين فكم
حياك منهم بساح الروع مصروع
 
والمنصف يجد الحامد يمتدح القوتلي، لكنه يذكره بكل أولئك الذين ضحوا بأرواحهم من أجل سورية، وقارعوا المستعمر الفرنسي، فخروا صرعى في سوح الوغى، وهذه الالتفاتة فيها الكثير من النبل والتعالي، فهو لم يطلب لنفسه مكافاة..!
طلب تحية للرافدين.... طلب رحمة للراحلين
ذكر بالذين ضحوا بأرواحهم
وها هو المنقذ- كما يراه- عليه أن يتذكر
قال في قصيدة الجلاء، وهي من أشهر قصائده التي نرددها لما فيها من إحساس عال:
بلغت ثأرك لا بغي ولا ذام
يا دار ثغرك منذ اليوم بسام
ولت مصيبتك الكبرى ممزقة
وأقلعت عن حمى مروان آلام
هذا التراب دم بالدمع ممتزج
تهب منه على الأجيال أنسام
لو تنطق الأرض قالت إنني جدث
فيّ الميامين أبطال الحمى ناموا
يوم الجلاء هو الدنيا وزهوتها
لنا ابتهاج وللباغين إرغام
يا راقداً في روابي ميسلون أفق
جلت فرنسا فما في الدار هضام
 
ومن قصيدة له في نكبة فلسطين:
رانت على أجواء يعرب غمة
ترمي صفاء سمائهم بدخان
يتفرقون ويلتقون كأنهم
خيل الحران تُشد بالأشطان
يا ويلنا شاد اليهود حصونهم
في دارنا والعرب في هذيان
هم يبتنون ونحن نهدم ملكنا
أنا من ذرا قيس وأنت يماني
 
ومن هذين المقطعين نستشف النفس الشعري القومي والوطني لبدر الدين الحامد الذي تشكل هواجسه القومية أعلى مراتب الإحساس، لانتمائه وشاعريته وانخراطه في العمل السياسي.
وعلى كثرة ما قيل في الجلاء، كانت قصيدة بدر الدين الحامد هي الأكثر ذيوعاً وسيرورة لسهولة ألفاظها، وصدق مشاعرها، واقترابها من روح الإنسان، إذ كان اعتماده على الروح والشعر أكثر من اعتماده الألفاظ الفخمة الرنانة، وكذلك كان لجوؤه إلى المقارنة بين حال العرب وحال اليهود في فلسطين ناجحاً وناجزاً في تحقيق مقولته عن حال العرب أكثر من البكاء على ملك ضاع، وذلك من خلال تشخيصه للضعف.
وبعيداً عن حياته الوظيفية الغنية التي أمضاها في الوظائف الحكومية، وبعيداً عن أجواء العلم الديني الملتزم الذي كان يلفه من أرجائه في الأسرة، بعيداً عن هذين الجانبين كان الشاعر بدر الدين الحامد شاعر حياة.
ولا نعرف جميعاً، ولا أقول لا يعرف الآخرون الجانب الصوفي والخمري شأنه شأن الشعراء الذين لجؤوا إلى الحب الإلهي للتعبير عن رغائبهم، وفي هذا الجانب ترك بدر الدين قصائد تتدله بذاتها قبل أن تصل إلى تدله المحب والمحبوب، سواء أكان بشراً أم إلهاً..
كم ننتشي طرباً وصوفية ووجداً ونحن نسمع شعر بدر الدين الحامد دون أن نعرف أنه القائل المعنّى:
أترع الكأس وطيبها بعرف من لماك
واسقينها إن عيني لن ترى شيئاً سواك
وليقولوا ما أرادوا أنا صب في هواك
جنتي كأس الحميا ونعيمي في رضاك
 
ومن شعره الغزلي المعجون بالوله والعشق يقول في إحدى قصائده، وكل شعره الغزلي من المرتبة العليا:
حملونا عبء الهوى ونسونا
ما عليهم لو أنهم ذكرونا
نحن منهم على خيال مقيم
يبعث الوجد والصبابة فينا
إن جنحنا إلى السلو أردنا
بلحاظ العيون سحراً مبيناً
وسقونا عذب الحديث سلافاً
مثل قطر الندى صفاء ولينا
يخفق القلب في الجوانح شوقاً
وتسيل العيون دمعاً هتونا
 
ولبدر الدين الحامد قصيدته البارعة التي ترددها ألسنتنا «أنا في سكرين من خمر وعين». توفي بدر الدين الحامد 1961 في حماة ودفن فيها مخلفاً سيرة رجل أديب مناضل قدّم نفسه وروحه من أجل وطنه، لكن القدر أسعفه بأن يحيا ليرى أرضه حرة، وليشهد الاستقلال، وفي شعر الحامد أقول ما قلته عن شعر شعراء سورية، فهو يستحق أن يتم اختيار مجموعة من قصائده لتدرس في مناهجنا في مختلف المراحل، ومن المعيب أن تخلو مناهجنا الجامعية من حديث عن شعرنا السوري باستثناء الشعراء الأعلام في المركز! طبع ديوان بدر الدين الحامد عام 1975 في وزارة الثقافة، ولكن هذا الديوان في عداد الدواوين النادرة إن لم نقل المفقودة، ويستحق من أعطى هذا العطاء لوطنه، وترك أشعاراً لا تنسى أن يعاد طبع ديوانه مجدداً ليكون بين أيدي الشعراء والنقاد والطلبة والمتذوقين، وأظن أن ما نعرفه عن بدر الدين الحامد يفوق بعشرات المرات إن لم نزد على الشعر الذي ينهمر على رأسنا ولا يجيد قراءته حتى شاعره، فهل وصل أي من الشعراء الذين يتبخترون أمامنا إلى دهشة
أنا في سكرين من خمر وعين؟
لا أظن.... ولا أظن أن هناك من سيصل.