شعراء ومبدعون يكتبون ألق الغياب في حضرة محمود درويش

شعراء ومبدعون يكتبون ألق الغياب في حضرة محمود درويش

شاعرات وشعراء

الثلاثاء، ١٢ أغسطس ٢٠١٤

آلى شعراء ومبدعون على أنفسهم إلا أن يكتبوا ألق الغياب الذي تركه الشاعر محمود درويش، فيهم وفي القصيدة. أن يكتب هؤلاء حول ذكرى الراحل، يعني في ما يعنيه استعادة القصيدة وردها إلى مجدها الذي لم يبارحها لحظة. وأن يتذكر هؤلاء درويش في غيابه البهي، يعني أيضاً التذكير بمحنة الفلسطيني، ولاسيما ما تعرض له خلال الأيام الماضية وما يزال يتهدده. شعراء ومبدعون كتبوا لـ«الحياة» حول هذه الذكرى وحول النكبة التي تتجدد باستمرار كأن لا نهاية لها.

 

عبدالله التعزي: فلسطين هنا.. في منتصف الجسد

منذ القدم كان لدي فلسطين. في طول المدرسة وعرضها. داخل كل الغرف حتى التي في القلب. كانت تتمدد في كل الأنحاء حولي حتى قبل أن يكون لي تاريخ. وبعد أن تفتحت الدنيا حولي أدركت أن فلسطين ليست هناك بل إنها هنا في كل ما كان حولي. عندما أصعد الدرج إلى الفصل قبل بداية الحصة. في لقمة السندوتش الذي كنت أشتريه بعد التبرع لفلسطين. في أوقات الفسحة التي كنا نتدرب على حفل نهاية السنة بأناشيد وأغانٍ عن فلسطين والوطن الكبير. كنت أحمل فلسطين مع كل الزملاء وجميع الطلاب وكل أبناء الحارة في مكة وجدة أينما نذهب. لم نشعر في يوم أن فلسطين بعيدة. كانت دائماً بينناً.. ومنا.. ولنا. تعبنا من الحياة ولم نتعب منها على رغم أنها تبدو كجرح نحمله في منتصف رؤوسنا والدم يقطر بالتساوي على أكتافنا الصغيرة. كانت هذه صورة لم نرها أبداً ففلسطين نحملها بدون تفكير لأنها جزء من أجسادنا. كيف نفكر في حمل رؤوسنا أو قلوبنا أو حتى أقدامنا. نبتهج فنلوح بها مثلما نؤشر بأيدينا للآخرين. لم يختلف التاريخ كثيراً علي رغم مرور كل تلك السنين وكل تلك الاتفاقات والتقسيمات والاحتفالات والغزات والأريحات وكل الأسماء الأخرى وكل المذابح والمجازر والخطب والخطابات والمقالات والدراسات وكل الحجارة وكل الأطفال، وكل الشيوخ والأمهات وكل الجدران وكل الخيانات وكل المعابر وكل الانتخابات والسياسات والانقسامات والشعارات والطائفيات والاختلافات والاغتيالات وأخيراً كل القصف الدامي. لم يختلف شيء لدي بقيت في داخلي فلسطين فقط. تربى في قاع القلب أن فلسطين دائماً في المنتصف. لن نصل إلى النهاية بدون أن تكون هي في الطريق. لن يمر العمر دون أن تكون هي بين السنين. ولن يتم الفرح دون أن تكون هي بين الابتسامات. ولن يمر الموت دون أن تكون نهاية العالم.

 

هيفاء العيد: الفتية المصطفون لفقرة الذهاب

كل هذه الفواجع المريعة التي تهز ثقة الأشياء بنفسها أكثر لطفاً من قلب هذا العالم الشاذ. كل ما يحدث في هذه المدينة العظيمة من موت كثير وخراب فادح هو نصر يشير بأصبعه الشريف إلينا أننا ورق الزيف وعلامة الفصل الأخير.. فلا حاجة إلى مواربة كي نتأكد من ذلك. ثبات ذلك الرجل الذي بني بيته قلباً قلباً فتحول في لحظة إلى فخ مرعب حين تهدّم وانهار واختلط حطامه بدم حميم وعظم الفلذات الذين سكنوه مطمئنين البال دون قلق من الغد. فزع الطفل الذي ظن أن الوطن حتى آخر خيمة ملاذ، وأن النار حتى آخر سياج طريدة، ولكنه أدرك، على يناع غصنه، أن الحكمة للموت وأنه شكل واحد ليس مخيفاً، ولكنه بارد ومرّ، ولم يأخذ درجة وجوهنا المرصعة بالامتعاض وبريق الشاشات التي لا تنام! السؤال الصامت الملح على وجه الأم الثكلى وحزن الأرض جميعه لا يقطع تسبيحها. الأجساد المتهافتة على صدر الموت دون وجل أو نداء استغاثة يعزز بشاعة العالم.

حتى الدمية التي فقدت طفلتها وباتت وحيدة دون يدين صغيرتين.. وحضن الأرض الذي لم يعد يتسع لآلاف الأطراف المبتورة أو البقايا المهتكة، وارتكاب الريح ما أرادت، وحنق الشجر دون ظل الأسوار وملاطفة المآذن وذعر الرمال ومعنى الغضب. كل هذا سيحدثك طويلاً عن سيرة الموت الشريف، وأنت بلا اكتراث تمسح عن الحياد ملامح الضجر، لا تأبه بفجور هذا الحديد ولا بأفواج الرغبة في الحياة بلا خوف أو تلفت.

حكاية بلا خاتمة لا تعرفها أنت ولا أنا. لا يعرفها سواهم.. الفتية المصطفون في الصف الأول لمواجهة فقرة الذهاب الغادر، دون أدنى احتيال على الحياة وهم على ثقة بأن كل هذا السيل من الدم لم يعد يغري عطش وكالات الأنباء وتربصنا بالصور.. كل هذا الدخان الكثيف الأسود لا يحجب سمع السماء. لا شيء يردعهم عن الموت لا شيء يوقف شراهة الهدم. الطريق قصيرة ومؤلمة ولكن كل هؤلاء يعرفون طعم السماء. ويعلمون أن الحياة ستعود، ستعود عنوة إلى هذه الأرض المحشوة بالغضب العريض. ونحن هنا مازلنا من فرط الحياة نحاول فهم الموت كي نتقيه ونبتكر التراجع للفرار نحو اللامعنى. ولا يمنعنا كوننا نمثل الشاهد الغائب الوحيد في الحدث أن نحاور ونجادل، نستنكر وندين، نعارض ونجاري، نستفز ونقاوم ونرسل التلويح الموارب كلصوص، بحذر وصوت خفيض. وفي النهاية نموت وحيدين، وحيدين جداً، بلا شرف ونعلم أنه لن يخسرنا أحد.

 

إبراهيم الحسين: الحديد في لغة السواد

 

هو الحديد الذي يخفق

وهو الذي يضرب في سواده

يكزّ على حديده، ينطوي ويعوي،

وهي اﻷصابع المصابة بعدوَى السواد..

تحصي العيون التي تركها الميتون

تحصي الحجارة فرّتْ من البيت لئلا تختنق..

فتعثّرت بنظرات الذين غادروا

تعثّرت بعزلة مَن لم يسعفه السواد كي يرتّب نشيجاً لائقاً،

لم يجد متسعا في السواد ليعلق روحه على شهقته قبل أن ينام..

هي اليد التي حالت إلى لغة السواد بظاهرها وباطنها تتزيّا به وتمجده..

تحصي خيوط النسيج وتتحسسها..

تستوثق من حلكته واستدارته، من إحكامه حول جمرته الباكية

بل هو الحديد الذي يسنح ويحمر

يتوهج في فحمه ليبدي زهرته ويرفعها في وجه عدو لا يكف،

يطعم الحرائق من خزين جذوره

يغذيها منها يتمدد في طينته السوداء

وهو الحديد الذي يطرق حنجرته:

أما من حمامٍ لهذي السفينة

أما من هداهد

أيتها الحلكة؟

 

أحمد الملا: ضحكاتُ الموتى

 

أتلفّتُ إلى ما يجري

ولا يعبر

يظلُّ طافياً وينتفخُ

تاركاً مساميره غائرةً ومعقوفة.

 

محاولاً استعادة يدي

وتحريك الألم من موقعه

بالضحك الصريح وبثِّ موجاتٍ بمجدافي.

قبلَهُ كنتُ معلقاً بين حربين بعيدتين

ولي فسحةٌ أسبحُ في مياهِها

وأحياناً أجرُّ الضحك مثل صخرة تغوص بي عميقاً

أكزُّ على أسناني

بصرخة تلمع في الغرق.

الموتُ في ضفّة والنومُ في ضفّةٍ مقابلة

هاهما تُطبقانِ على جسدي

ضفّتا حربٍ تلتقيان

تقتتلان بلا ميزةٍ ولا راية.

دقّتِ الحربُ بابي

حاولتُ أقلَّ مما يجب

وزاغت ابتسامتي،

لا لا لا

ليس هذا ما أردتُ قولَه

ولست أبحث عما يفيض،

أريد أن أمسك بضحكاتٍ صغيرة

تُعدي القتلَى من حولي،

وعلى الأرجح ها هو،

هذا كل ما أرغب فيه الآن؛

أن نضحك معاً

ضِحْكَ سكّيرٍ يروي نكتةً لنديمٍ غافٍ متيقن بضحكته قبل انتهاء الحكاية.

 

البارحةَ ضاعت نظّارتي ولم أعد قادراً على مجاراة الحرب كما يجب،

لن أستعين بفزعة الصديق

ليجد الضحكة التي تدرجُ من السرير

وتلوذ بركنٍ معتم.

 

أجسادٌ مسجّاة

تسبحُ في الصور،

أين اختبأت ضحكات الموتى

أين وضعها النائمون

ليفركوا بها أسنانهم في الصباح.

 

روان طلال: لماذا تركته وحيداً؟

 

لك في غزة ما لنا في نشيد الشهيد

ولك وحدك الحصان

لا ليل للمحاولة ولا خروجاً عن نسق الوحدة

وتعرف!

لا أرض تحفل بالصهيل

وحده الحنين

حين كنا نسميه بترفقٍ شعر

وكنت تسميه: القتال!

ولم يكن دماً

الحصة الأولى من الزيتون

حينما البندقية والزَهر تعاويذ الأمهات

ولم يكن موتاً

تمرد الصغار على أزرق الحياة

بما نظنه الحجارة

وبما يؤمنوا: الخلاص.

 

يحيى امقاسم ارتجال في الزرقة الأولى

 

وأنت تذهب أيها الصبي في خفر هذه الزرقة، كأن الخيانة فضيلة الموقف الأخير من الحياة. وأنت تذهب أيها الصبي في حلوى الزرقة، نتذكر حين كان الورد إناء النيات، ‏كانت بلادنا سماء، وأهلنا سحاب يخيطون الزروع قمحاً، ثم يسمونه: الوطن. ‎الآن لم يعد البكاء أكثر من ‏إفلاس المحاولة الوحيدة لاصطحابك نحو نهار الأم والبيت. الآن من فرجة هذه الزرقة المعدة للمفاوضة الخاطفة لا لوداعك، كأنما احتمال الأسف ليس لأحد ولا للبلاد، بل لحنين تتركه لجودة الحياة التي لنا معك. من هذه الزرقة التي تقشع عن خطوتك القادمة درب من اختار الأبد، وجُرْعَتنا: يا الله، ليُخلق الفقد يتيماً، فالحياة ستكتفي به دون وجودنا هكذا في عري هاتين العينين من فسحة الزرقة العابرة. ‏وأنت تذهب أيها الصبي في نهر هذه الزرقة، ليس في وسع العالم أن يقول: عشت الحياة التي لي، أما الآن سأنام إثرك طويلاً. أيها الصبي وحدك تتلو قشيب العتاب من هذه الزرقة الحذقة لمستقبل لحظتك وأمام السلاح المعد لحروب كثيرة ولأجل ميتة واحدة لا تفصح عن عنوان اصطحابك. هم الآن من هذه