شفيق جبري.. العميد والشاعر العندليب

شفيق جبري.. العميد والشاعر العندليب

شاعرات وشعراء

الأحد، ٢٨ يوليو ٢٠١٣

أمي! ولست أرى في الأرض قاطبة أعز منك على الأسماع والبصر ناديتك اليوم لا حسّ ولا خبر فأين منك دوي الحسّ والخبر؟
إنه شاعر الشام وعاشقها، راسم حروف قوافيها، والمتأنق في مترف إحساسها وجمالها، والناثر الساحر الذي حوّل كل أرض حلّ فيها إلى أرض للسحر، عشق الشعر حتى تنفسه، وتماهى مع الوطن فلم يعد يذكر الجلاء والإنسان إلا واقترن بشعره الذي شكل سجلاً لأيام الشام المؤلمة والمشرقة على حد سواء..!
إنه شفيق جبري نائح الشعر، وعندليب الوطن الذي سجل نوحه في سفر من أسفار الحياة السورية، إنه الفكر العميق والرؤية الثاقبة الناقدة، مجمعياً كان وشاعراً وأكاديمياً وسياسياً.. ولد جبري في دمشق سنة 1897م، وهذا التاريخ دوّنه بخط يده مع أن الدوائر الرسمية تجعله من مواليد 1898م.. تعلم في دمشق في مدرسة اللعازاريين، وطاف مع أسرته في ولايات الشام، إلى أنه استقر في دمشق سنة 1917، وبدأ نجمه الشعري بالبزوغ، عمل في الحكومة العربية مع عبد الرحمن الشهبندر، وفي وزارة المعارف مع الوزير محمد كرد علي، بدأت عضويته في مجمع اللغة العربية سنة 1926، وصار عميداً لكلية الآداب بجامعة دمشق سنة 1947 حتى عام 1958 بالتقاعد.. توفي جبري سنة 1980 بعد مسيرة حياة علمية حافلة، وعمل دؤوب، وترك ديواناً شعرياً مميزاً طبعه مجمع اللغة العربية بدمشق، وحمل اسم (نوح العندليب) حبذا لو أعيد طبعه باسم ديوان جبري مع بقاء نوح العندليب عنواناً فرعياً، ويستحق جبري أن يكرّم، وترك كذلك عدداً من الدراسات المهمة منها: الجاحظ، العناصر النفسية في سياسة العرب، بين البحر والصحراء، الأغاني، محاضرات عن محمد كرد علي، أنا والشعر، أنا والنثر، أرض السحر، أحمد فارس الشدياق.. واللافت أن هذه الدراسات المميزة عرفت بين القراء والمتخصصين، وأفادت لما فيها من عمق وإنصاف.
قال فيه الراحل الدكتور شكري فيصل شهادة غاية في الأهمية، وربما تظهر الأسباب التي أبعدت جبري عن الذائقة العامة: «انصرف بخاصة إلى القديم بأكثر مما انصرف إلى الجديد، وآثر أن يباري أترابه ولداته في مثل الشروط التي كانوا يعيشون فيها، ورأى أن جمهور المتلقين كانوا أقرب إلى الانفعال بالتليد والاستجابة له والتأثر به، بأكثر مما كان يمكن أن ينفعلوا بالجديد الطريف».
مما قاله تحت عنوان وطني:
 
وطني دمشق وما احتويت ظلاله
 
يا دهر إنك قد أطلت نزاله
 
ماذا جنى حتى شددت عقاله
 
بالله حُل إن استطعت عقاله
 
هل يهدأ المأسور في أغلاله؟
 
إن بات يشكو في الدجى أغلاله
 
وطن إذا ائتلفت قلوب حماته
 
قهر الشعوب فلا تصول مصاله..
 
ومن أشهر شعره في الجلاء:
 
حلم على جنبات الشام أم عيد؟
 
لا الهمّ همٌ ولا التسهيد تسهيد
 
أين الأعاجم؟ ما حلوا وما رحلوا
 
كأنهم حلم في الفجر مردود
 
من كان يحسب أن الشام يلفظهم
 
وأن طيفهم في الشام مفقود؟
 
أغركم من شباب الشام يومهم
 
بميسلون وللأيام تنكيد
 
خلت ملوك وأرض الشام طاوية
 
تاج الملوك، وتاج الشام معقود
 
يا فتية الشام للعلياء ثورتكم
 
وما يضيع مع العلياء مجهود
 
جدتم فسالت على الثورات أنفسكم
 
علمتم الناس في الثورات ما الجود.
 
وللجلاء أكثر من قصيدة من شاعر الشام المحتفي بالوطن وحريته:
 
قد يجمد الدمع إلا في مآقينا
 
ويبرد الجرح إلا في حواشينا
 
لله في جنبات الشام آتية
 
تضيء وفي ظلها الضافي ليالينا
 
كم طاعن الشام في الماضي جبابرة
 
حتى أذاقت مناياها المطاعينا
 
قل للذين أذاقونا بليتهم
 
حتى نفضنا بلاء كان يؤذينا
 
ما كنتم غير حلم في نواظرنا
 
أدمى النواظر حيناً وانجلى حينا
 
ومن رقيق شعره الغزلي:
 
خطرت ببالك يا لها من خطرة
 
أتظن أنك قد خطرت ببالها؟
 
هيهات ما عرفت هواك ولا درت
 
بوجيف ظلك في هدوء خلالها
 
لم تخلُ من عطف ولا من رقة
 
صاغ الإله العطف من تمثالها
 
لم تقضِ من أمل الهوى ريانه
 
جفت مناك على ثرى آمالها
 
إن التي ملأت فؤادك صبوة
 
قطعت حبالك فاعتلق بحبالها.
 
ورثى حافظ إبراهيم بقصيدة مؤثرة:
 
غنّت قوافيك بالأحزان مائجة
 
تكاد تنطق عن بؤس أغانيها
 
لله شعرك كم هاجت هوائجه
 
بضيقة في حواشي النفس تضنيها
 
لو لحنوا البؤس في شعر نردده
 
لكان بؤسك ألحاناً نغنيها
 
صافحت جلق لم تنقض مواثقها
 
على البعاد ولم تنكث أواخيها
 
فإن بكتك على جرح تعالجه
 
فقد رأتك على الأهرام تبكيها
 
وفي رثاء أحمد شوقي يقول:
 
قم ناج كرمته واسأل منابتها
 
أما على مصر غريد يغنينا؟
 
قد كنت بلبلها في عز نهضتها
 
وفّيتها الحق في رأس الموفينا
 
يا ناظم الشرق في شعر يطاف به
 
على حمى الشرق روحاً أو رياحينا
 
ذكرى أمية لم تبرح حواضرنا
 
لما بكيت ولم توحش بوادينا
 
ناجيت جلق في وحي تردده
 
على اعتلاج الأذى فيها مغانينا
 
فيها من الثورة الحمراء أمثلة
 
تمثلت في مجاليها معالينا
 
هذي أمية لم تهدأ وساوسها
 
على دمشق ولم تنشف مآقينا
 
وله في رثاء إبراهيم هنانو:
 
لمن النعش مائجاً بمصابه؟
 
زاحفاً بالحمى وزهو شبابه
 
نفض القبر نفضة هزت الشا
 
م فسالت بطاحها بركابه
 
لست من إبراهيم إن كنت ترضى
 
ثقل القيد واحتمال عذابه
 
وله في المتنبي قصيدة طويلة:
 
أو كأني على دمشق أراه
 
ماج من هدلة الحمام وداده
 
أوحشته بشعب بوان أرض
 
لم يناسب جدودها أجداده
 
شاعر المجد لو تطلّبت مجداً
 
كان منه طريفه وتلاده
 
صاحب الحكمة التي تملأ الدهـ
 
ـر فتزهى بحليها أجياده
 
أيها الشاعر الذي ملأ الدنـ
 
ـيا دوياً مماته وولاده
 
نم هنيئاً لك الخلود الذي انقا
 
دت على ملء طوعها آماده
 
حسدوه على السماء التي حلّـ
 
ـق فيها ثم انقضى حساده
 
ومن قصيدته نداء عيسى نقطتف:
 
أما تنفك من ألم تنوح
 
وقد أوفى على الدنيا المسيح
 
حنانك يا ابن مريم لا تؤاخذ
 
رجالاً همهم جفن قريح
 
أخوك محمد وأخوك موسى
 
وهل بعد الإخاء دم سطيح
 
إذا ائتلفت مرامي الدين يوماً
 
رأيت الدين ريحاناً يفوح
 
على يدك الكريمة كل خير
 
له في الأرض آثار تلوح
 
أكل الدهر في الدنيا صراع
 
أما للسلم مصباح صبيح؟
 
وأختم بأبيات كتبها في رحيل أمه عام 1957، ويقول فيها: إني لم أحب أحداً في حياتي كلها مقدار حبي لأمي، لقد شغل حبها كل ناحية من نواحي قلبي، كانت ملء هذا القلب، لا تكاد الدنيا وزينتها تعدل جزءاً من هذا الحب..
 
فكانت ترى الدنيا كلها فيّ، وكنت أرى الدنيا كلها فيها.. رثيت رجالاً كثيرين من أهل السياسة والأدب والشعر، فلماذا لم أرث أمي حتى اليوم؟ لماذا لم أقل فيها إلا هذه الأبيات؟
 
أمي! ولست أرى في الأرض قاطبة
 
أعز منك على الأسماع والبصر
 
ناديتك اليوم لا حسّ ولا خبر
 
فأين منك دوي الحسّ والخبر؟
 
غادرت في القلب جرحاً كلما هدأت
 
آلامه اتّقدت في القلب كالشرر
 
لو تسمحين جعلت الصدر متكأ
 
لرأسك الطهر في الظلماء والحفر