الشعر الياباني ومراحل تطوّره … الهايكاي الذي صار هايكو وانتقل إلى الآداب العالمية

الشعر الياباني ومراحل تطوّره … الهايكاي الذي صار هايكو وانتقل إلى الآداب العالمية

شاعرات وشعراء

الثلاثاء، ٢٦ ديسمبر ٢٠١٧

يعتبر الامبراطور «دايغو» صديق الشعراء، فهو الذي احتضنهم وجعل من عاصمته «هئيان/ كيوتو اليوم» مجمعاً لهم، فنسخت القصائد وجمعت عام 901م. بيدي أمير شعراء ذاك الزمن «كي نو تسورايوكي» في مجموعة واحدة سميت «مانيوسهو» وهي أول كتاب حقيقي للشعر الياباني. علماً أن هذه المجموعة قد شارك فيها عدد من الشاعرات، ولكنها كتبت بالأحرف الصينية، واستمر هذا الأمر حتى القرن الحادي عشر حيث بدأت الكتابة باللغة القومية اليابانية. وفي عهد الإمبراطور «كوكينسهو» أُحدِث مكتب للشعر، حيث كان مقراً للاحتفالات الشعرية، والتكريمات والمباريات الأدبية، باهتمام شخصي ومباشر من الإمبراطور.. واستمرت الحركة الشعرية في نموها حتى القرن الخامس عشر حيث بدأت تلوح قصيدة الهايكاي، التي باتت للتسلية في البلاط الإمبراطوري الذي عشق الشعر، حتى جاء الشاعر الكبير «باسهو» الذي وضع أسس الهايكاي وصار شعراً نوعياً ومنه ظهرت قصيدة الهايكو في القرن التاسع عشر.
«كن أميناً
لأنّ قلبك في طريق الخير
والآلهة تحميك
وإن لم تتضرّع إليها»
هذه القصيدة ليست من الهايكاي، هي من التانكا من سابقات الشعر ذات الأصول والقواعد الصارمة، للشاعر ميشيزان، قبل باسهو، فالشعر الياباني يتم تأريخه بباسهو قبله وبعده.
باسهو وضع قواعد الهايكاي فهي تتألف من سبعة عشر مقطعاً، كل مقطع خمسة أبيات، لكن باسهو أدخل الكلمات اليومية والعبارات الحياتية إلى الهايكاي، مستعيداً الكلمات الصينية الأصل التي استبعدها البلاط حتى عادت في صوره الشعرية. فلم يكن شعر الهايكاي في نظر باسهو عبارةً عن تسلية كما كان مع من سبقوه. كما في هذا النص مع الشاعر سوجي:
«في الغيوم الأوز البري
وتحتها البط الصيني
نقيقها درب الجبل»
عاش باسهو حياة رحالة في جزر اليابان الثماني، وفي هذه المرحلة تحديداً اتخذ لنفسه اسم «باسهو» متخلياً عن اسمه الحقيقي «ماتسوو مانيفوزا» وتحول إلى أسطورةٍ فصار فذاً في نظر الشعب يتعذّر تقليده.
وكانت نصوصه تحفظ ويستذكرها اليابانيون في أيامهم، بعد أن جعل لغتهم اليومية وشعره حالة متداخلةً لا يمكن الفصل فيها. فهو الذي جعل من الهايكاي موسيقا السراب، يتشابك فيها الصمت والأصوات، ويعطي للقارئ هوامش واسعة يفكر فيها ويكتشف نفسه فهو الذي قال: «إن الهايكاي إلهامٌ عابر فيها يرى الإنسان الحقيقة الحية للأشياء» ويقول شعراً:
«في كل هبة نسيم
تغير الفراشة مكانها
فوق الصفصافة
فوق الغصن اليابس
غراب يجثم
في مساء الخريف»
ويقول أيضاً:
«بحرٌ قاتم
صوت بط
أبيض بغموض»
يقدم شاعر الهايكاي اكتشاف اللانهاية، فهذه القصائد تختلف تماماً عن الرباعيات، كرباعيات الخيام، فليس فيها حيل ولا تلاعبات لفظية، إنما تحمل نظرة المصور الشاعر ولربما جعل هذا الفن اليابانيين من خيرة المتخصصين في فن العدسية المرئية، لامتلاكهم حدة البصر وملكة الانفعال، بعد أن تربّت ذائقتهم الشعرية على الالتقاط الفوري والمتفاعل مع الصورة، وكان لباسهو عدد من التلاميذ وكان من خيرتهم وأحبّهم إلى قلبه «كيكاكو» وقد حدثت بينهما قصة شعرية، فقد كتب كيكاكو مرةً:
«انزع عن يعسوب أحمر
أجنحته
يصبحْ فلفلة»
فوجد باسهو أن هذه الصورة رهيبة فعكسها إخلاصاً منه للمشاعر البوذية:
«ضع لفلفلةٍ
أجنحةً
تصبحْ يعسوباً أحمر»
بعد باسهو جاء عدد من الشعراء متتلمذين على شعره وثقافته، وقد برز منهما اسمان هما «إيسا» و«بوزون» فلايمكن أن تقرأ الشعر الياباني من دون أن تعرف هذه الأسماء.. ومن شعر إيسا:
«أيها السنونو
لا تنسَ بيتي
حين تعود»
ولهُ أيضاً
«طيارة الورق البديعة
من أين تصعد؟
من كوخ الشحّاذ!»
ومن شعر بوزون نقرأ:
«زخات أمطار الربيع
ومعطف القش والمظلة
ماذا كانت تقول فيما بينها وأنا أنطلق»
يبدو أن المعنى العميق للشعر في اليابان ليس في معنى الكلمات التي يؤلفها. إنما يتعلق ذلك بانفعالات القارئ، وحساسيته وقدراته الخاصة. ففي ثقافة الشرق الأقصى تظل زمجرة الشلال والماء المتساقط شيئاً واحداً، وارتداد الموج فوق صخور البحر والأمواج المتلاشية فيه، كلها تترابط في لغة مفردة، لأن للهايكاي موسيقاها الغريبة التي تأسر مستمعها وتأخذه إلى موطنه لتجعله يكتشفها. لذلك لم يكثر شعراء الهايكاي من استخدام الحكم ولم يعتمدوا على التجريد، بل كانوا وما زالوا يلجؤون إلى أكثر الكلمات شيوعاً لكي يعبروا عن مشاركتهم للطبيعة، وعن استقرارهم في باطن الأشياء واقترابهم من كل ما هو مغلق عن التعبير، لكن الهايكاي لم تكن في يوم من الأيام كلاماً عادياً كما يحدث اليوم في نقلها إلى لغتنا وإدراجها في ثقافتنا، فقد جعل منها باسهو نظماً فيه تفكير وفيه من الصفاء والاستمرارية الشيء الكثير، وكان يراجع قصائده بلا كلل، قصائده المتركزة حول الطبيعة ومتطلبات الكتابة لذلك قال عنه النقاد بعد قرون من دراسة شعره: «لقد جعل من الهايكاي لغةً مرهفة قصدها إثارة أصداء العالم الداخلي».