عمر أبو ريشة.. شاعر الكبرياء المرهف

عمر أبو ريشة.. شاعر الكبرياء المرهف

شاعرات وشعراء

الاثنين، ٨ مايو ٢٠١٧

أكد معاون وزير الثقافة توفيق الأمام على هامش ندوة الأربعاء الشهرية التي تقيمها وزارة الثقافة بالتعاون مع مكتبة الأسد وبإشراف د.إسماعيل مروة أن وزارة الثقافة تتشرف بتكريم القامات الفكرية والأدبية والفنية السورية باسترجاع ذكرى هؤلاء، ومنهم الشاعر السوري الكبير عمر أبو ريشة الذي كان محور الندوة الأخيرة. وبيّن د.إسماعيل مروة أن أبو ريشة واحد من أهم الشعراء السوريين والعرب على الإطلاق بما تمتع به من إحساس عالٍ ومرهف وشخصية معتدّة بذاتها وقدرة على تقديم صور شعرية مهمة، إلى جانب مواقفه الوطنية وتمسكه بوطنه سورية وتمثيله لبلده كسفير خير تمثيل وهو الذي لم يرضَ أن يُدفَن في أرض غير أرض وطنه.

صنف مختلف

وبيَّن د.غسان غنيم وهو أحد المشاركين في الندوة إلى جانب د.ثائر زين الدين ود.محمود سالم أن عملية إحياء الشخصيات الأدبية والفكرية السورية من خلال ندوة الأربعاء هي عملية مهمة تعيد لهذه الأسماء المكانة اللائقة والجديرة بالتكريم، وأشار إلى أن أبو ريشة واحد من أهم الشعراء التقليديين الجدد الذين استطاعوا أن يزاوجوا بين حالة التقليدية التي تقوم على الرصانة ومتانة اللغة وصراحة التعبير، وكذلك على الرقة في الألفاظ وتحديث الصورة الشعرية، ولذلك شكَّل أبو ريشة برأي د.غنيم حالة برزخية بين التقليدية الجديدة والرومانتيكية التي شاعت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وأوضح في مداخلته التي تناولت المرأة في شعر أبو ريشة إلى أن الشاعر لم يكن من صنف المحبين التقليديين الذين عرفناهم في تراثنا العربي أمثال قيس وليلى وكثير عزة وغيرهم، بل كان من صنف مختلف، حيث كان يجد في المرأة موضوعاً استثنائياً فيه الكثير من الطرافة إن جاز التعبير، فكان لا يعد المرأة حبيبة فحسب بل حالة مغامرة، وأكد أن موقف أبو ريشة من المرأة يشكل تجلياً حقيقياً من شخصيته التي تجاوزت الأخلاق الريفية التي تربى عليها والأخلاق المدينية التي اكتسبها من خلال رحلاته الكثيرة وعمله في السلك الدبلوماسي.

 

انفتاحه على الآخر

ولأن واحدة من أهم ميزات عمر أبو ريشة انفتاحه على الآخر إنساناً وثقافة وحضارة بصورة عامة وقدرة خلابة على الإفادة من ذلك كله وظَّف أبو ريشة برأي د.ثائر زين الدين ذلك معنوياً وفنياً في نصه الجديد بحيث رأينا منجَزه الشخصي مثالاً ساطعاً للمثاقفة والأصالة والمعاصرة في آن واحد فكانت تجليات الانفتاح على الآخر وقبوله، والاتحاد به أحياناً، ساطعة في مضمارات عديدة، منها الآخر، التراث، شخصيات، أماكن، تاريخ.. والآخر الفن العالمي، لوحات وتماثيل، معابد.. الخ، والآخر حضارة شعب غريب، منجزاته، مثُله، رموزه الثقافية، فاستحضر أبو ريشة الشخصية التراثية في تجربة مبكرة جداً وقبل ربع قرن تقريباً من انتباه شعراء الحداثة إلى ذلك، وجاء الأمر فيما أسماه زين الدين “الاتحاد بالشخصية المستحضرة” وهي تقنية يلجأ إليها الشاعر حين يشعر أن علاقته بهذه الشخصية بلغت ذروتها، وأن الشخصية قادرة بملامحها التراثية أن تحمل أبعاد تجربته الخاصة حين يتحد بها ويتحدث بلسانها، مضيفاً عليها ملامحه ومستعيراً لنفسه من ملامحها تحت ما تمت تسميته بالقناع، حيث يتحدث الشاعر من وراء قناع شخصية فنية قادته إلى مونولوج درامي، وهذا ما فعله أبو ريشة حين كتب قصيدة “كاس” المبنية على قناع  ديك الجن الحمصي، الشاعر الذي قتل جاريته الحسناء حباً لها وغيرة عليها قبل أن يجبل كاسه من جثتها المحروقة فيبدأ القصيدة باستهلال نثري يروي فيه قصة قتل ديك الجن لتبقى القصيدة استمراراً لصوته .. ويشرح زين الدين أن أسباب استخدام أبو ريشة للقناع بشكل مبكر في الشعر العربي -كما ورد على لسان خلدون الشمعة- تعود إلى معرفة أبو ريشة المباشرة بمصادر الشعر الإنكليزي الذي نبّه أبو ريشة إلى ارتباط تقنية القناع بالمونولوج الدرامي.. ومن صور انفتاحه على الآخر ذكر د.زين الدين اللوحات والتماثيل الكثيرة التي صوَّرت الفتاة الفرنسية جان دارك، ولكن واحدة من هذه اللوحات الموجودة في متحف اللوفر استوقفت أبو ريشة وألهمته قصيدة أطلق عليها الاسم نفسه، وهو لم يقيد نفسه باللوحة الموجودة أمامه، بل ذهب بعيداً في تخيل حياة جان دارك ومواقفها وبسالتها وموتها، ويحول ذلك شعراً لتغدو القصيدة حكاية شعرية وليست قصيدة لوحة.

طراز خاص

ولأنه شاعر من طراز خاص تميزت موهبة أبو ريشة في مجال الوصف والتصوير، فقدم صوراً بديعة لم يسبقه إليها أحد بفضل موهبته التي تمتع بها وجعلته يبدع أعظم إبداع في هذا المجال، متخذاً برأي د.محمود سالم من الوصف والتصوير وسيلة تعبيرية وجمالية، فامتاز عن شعراء زمانه بأنه اعتنى بوصف الأوابد والآثار والأعمال الفنية، وكان ذلك أمراً جديداً كوصفه لتماثيل معبد كاجورا في الهند حين نقل المشهد في المنحوتات للمقروء والمسموع، وكذلك حين وقف أمام لوحة جان دارك في متحف اللوفر ونظم قصيدة بما رأى، أبدع فيها إبداعاً كبيراً، حيث نقل الخطوط والألوان والظلال والنور إلى قصيدة جميلة يروي فيها بطولات هذه المرأة، ليؤكد أن المرأة في كل زمان ومكان مؤهلة لأن تضحي وتكون كالرجال بقوتها. وأشار د.سالم إلى أن أبو ريشة جمع في شعره الوصفيّ بين الأصالة والمعاصرة، وخرج بصورٍ جديدة لا عهد للأدب العربي بها، في الوقت الذي تأثر فيه كبارُ الشعراء في عهده بوصف شعراء العصر العباسي مثل أبو تمام وابن الرومي وشعراء الرومانسية، ونوّه إلى تمتع أبو ريشة بخيال وثقافة واسعتين وخبرة كبيرة وقدرة نادرة على التعبير عما يريد، وهذا ما يجب أن يتمتع به من يريد أن يتفوق في الوصف، إلى جانب سلامة الحواس والإحساس العالي، وكل ذلك توفر عند أبو ريشة، فأبدع وتفوق، فوصف الطبيعة بمكوناتها وانعكاس الزمان عليها، ووصف الآثار والأوابد، مستخلصاً العِبَر منها.. ومن هنا تعددت غايات وصفه بين ما هو جمالي وما هو إبداعي حباً في أن يظهر قدرته على الإبداع ولغايات تعبيرية، ليكون الوصف لديه الوسيلة الأقوى للتعبير رغبةً في الابتعاد عن المباشرة.

أمينة عباس