الرهانات المتأرجحة لشعراء من جذور عربية كتبوا بالفرنسية

الرهانات المتأرجحة لشعراء من جذور عربية كتبوا بالفرنسية

شاعرات وشعراء

الثلاثاء، ١٤ مارس ٢٠١٧

 أحمد محمد السح

سيطرت فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى على معظم المنطقة العربية، وفرضت ثقافتها بالكامل، لكن اختلاف تقبل هذه الثقافة تأرجح بين منطقةٍ وأخرى. لكن التجربة المبهرة للدولة الفرنسية على مستويات عدة أبرزها السياسي وتجلّياتها على الشعب الفرنسي والتقدم والحضارة جذبت عدداً كبيراً من الشعراء ليكتبوا باللغة الفرنسية لتندلق الأسئلة المتنوعة حول هذا الشعر، وأبرز هذه الأسئلة: لمن نكتب؟ ولماذا نكتب؟! وتزداد أهمية هذه الأسئلة حين نتأكد من دون الرجوع إلى إحصائيات أن نسبة الأمية في المنطقة العربية كانت هي الأعلى وبالتالي يكون عدد القراءات لهذا الشعر الذي طرحه هؤلاء من أبناء جلدتهم هو الأقل، ويصل حدّ العزلة. هذه العزلة وصلت بهؤلاء الشعراء إلى مرحلة الاقتلاع مع تنامي التجربة القومية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي فانخفض التفاعل من النخب الثقافية مع نتاج هؤلاء الشعراء فكان شعرهم ردة فعلٍ أحياناً على القطيعة التي منوا بها كما في قصيدة «سفينة اسمها الحرية» للشاعر التونسي «محمد عزيزي» حيث يقول:
(… كان أسطولاً جميلاً
قبل أن يُضرَب
هنا سفينةٌ اسمها الحرية
تغرق بحشرجةٍ غاضبة
هنا مركبٌ اسمه
تنجيم… أو طب
أو وحدة غير منقسمة
أو جبر
أو فلسفة
يهلك في الوخم الرطب…)
هذه المقاطعة تجعل من الفنان يعيش حالة مأساوية تزداد عمقاً واتساعاً، تحديداً حينما يشعر أن ما حمله نحو هذا التوجّه لكتابة الشعر بلغة مستعمره ليس ضمن مسؤولياته إنما يقع على عدة ظروف تاريخية واجتماعية وتربوية – تحديداً في المغرب العربي – حيث برزت أسماء متعددة أتقنت الفرنسية حد الاندماج كما «الطاهر بن جلون» الروائي المغربي الذي ابتدأ شاعراً لم يحدث مفارقةً في الشعر كما فعل في الرواية، وهذا نصه «ترتجفين في مرآة جسدي» يكتب فيه:
(أي عصفور سكران سيولدُ من غيابكِ
أنتِ يدُ المغيب الممزوجة بضحكتي
والدمعةُ التي صارت ماسة
ترتفع إلى جفن النهار
ارسم جبينك في طيران النور
ونظرتك
تمضي
على الموجة المرتدة
في مساء الرمل…)
لكن من الظلم أن نركز على السلبيات في نتاج هؤلاء الشعراء، فلقد برزت عوامل إيجابية يجب الوقوف عليها أهمها اغتناء تجاربهم غنى مباشراً من التجارب الإنسانية من خلال السباق على التراث الإنساني مع الشعراء الفرنسيين أصولاً لتقديم إضافات متعددة من جوانب متنوعة تعطي عمقاً للفكر الإنساني كله، وإيضاحات معرفية تجعل الفرنسي ينتبه إلى الحالة الاستعمارية التي مارستها حكوماته قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها من وجهة نظر ابن الدول المستَعمرة لا من وجهة نظر السياسة، ونص «صرخات في المرفأ» للشاعر المصري «جورج حنين» نموذج على ذلك حيث يكتب:
(بعد خمس سنين سأكون…
بعد عشر سنين سيكون لدي…
بعد خمس عشرة سنةٍ سوف…
الآتي يمثل إنساناً
الآتي يدفعُ إنساناً
للآتي جيوب واسعةٌ يأخذُ
أحدها شكل المسدس
نظرة على خريطة: هنا ينب العاج، هنا مادة التنغستين،
عتمةٌ في هذه الجزيرة حيث يرسو إنسان
ثمة صرخات غريبة
في هذا المرفأ…)
هذا الانصهار الذي حدث من بعض الشعراء حيث كتبوا بلغةِ ا لمستعمر- العدو وقتها، وفي الوقت نفسه بلغة صاحب الحضارة، والثورة الإنسانية التي مجّدت الحقوق، وجب ألا يكون انصهاراً مجانياً إنما وجب أن تتم معاملته معاملة دقيقة في ترجمته ليكون عاملاً إضافياً في تطوير القصيدة العربية المعاصرة، وهو جهدٌ برز للشاعر والناقد والمسرحي بول شاؤول حيث ترجم عدداً كبيراً من هذه النصوص وأعادها إلى لغة الجنسية التي انتمى إليها هؤلاء الشعراء فلقد ترجم لكل من: فؤاد نفاع، هدى أديب، جويس منصور، كمال إبراهيم ومحمد ديب وآخرين. وممّا ترجمه بول شاؤول نقرأ ما كتبته الشاعرة اللبنانية «ناديا تويني» في قصيدتها «الحب خلف آثار غبار» حيث كتبت:
( على كفيك بداية طريق
الريح تغطي أجفاني
الحب خلف آثار غبار
تظلم في كتاب
وصوتك ملون كالماء
ما الذي يبقى من السماء؟
حصان مرسوم على الأفق؟
يقولون ها هو الشتاء ويتكلمون
على حديقةٍ تعطس
يسود الحجارة قدرٌ مدهوش)
تعتبر هذه الترجمة هي النافذة الأولى التي يمكن أن تعود منها نسائم هذه القصائد إلى العربية حيث القارئ الأصيل، وبعدها يجب أن يتلقفها النقاد بأدواتهم نقداً وتحليلاً. علماً أن الجهد الذي يقع به الشاعر الباحث عن هذه القصائد لهؤلاء الشعراء أضعاف البحث عن الشعر الأصيل في البلد الأصيل أي البحث عن شعر عربي أو شعر فرنسي، لأنه يحتاج أن نبحث عن نتف ما نشره هؤلاء الشعراء في المجلات أو في الدواوين الفرنسية التي نفدت طبعاتها، وبقيت أزمة القطيعة من المتلقي لهذا الشعر، حيث ظل هؤلاء الشعراء مـتأرجحي الرؤية فلم يتغاض العرب عن قطيعتهم، ولم يستقبلهم الفرنسيون بالترحاب إلا بعد سنوات، حين استقبلوا الرواية للكاتب الفرنسي غير الأصيل لأنها نقلت لهم عوالم لم يدركوها، لكنهم لم يستقبلوا القصيدة بترحاب واسع، ولذلك عوامله التي تبدأ بأزمة الشعر العالمية التي ترسخت في ثمانينيات القرن الماضي، وتنتهي بالعنصرية وتفشّي ظواهر الإرهاب العالمي والبحث فيها فيضٌ لا ينتهي.