السرقة والتزييف في الشعر العربي

السرقة والتزييف في الشعر العربي

شاعرات وشعراء

الثلاثاء، ٢٨ يونيو ٢٠١٦

أحمد محمد السح
كثيراً ما ترد العبارة التالية: «تناقل الرواة شعره»، في سرد سيرة شاعرٍ في مراحل ما قبل النهضة أي ما قبل التوثيق الخطي، وهذه الحالة التي عاشها الشعراء منذ ولد الشعر، جعل العلاقة الشفهية السمعية بين الشعراء والمتلقي هي الحكم والفيصل، لا بل أثرت في ميكانيكية الصناعة الشعرية، بل أكثر من ذلك أثرت في وجدانية المتلقي العربي حتى زمننا هذا. لكن الوقوف أما م مفهوم التناقل الموثق اللساني وعبر قرون يجعلنا نجزم أن قضية النسب اللفظي والأمي لنص شعري ما لشاعر، عبر البلاد والأمصار أمر وارد الحدوث لا بل إنه كثير الحدوث. فلقد عُدّ التزييف الأدبي قديماً في حياة الشعوب، ولعب في أسواقه الوراقون والمؤلفون معاً، فلربما تم نسب بيت أو حكمة أو قصيدة بكاملها إلى شاعر ما وهي ليست له، لا بل كثيراً ما خُلطت قصائد بأكملها على لسان شاعر وهي منسوبة من عدة شعراء فأعيت النقاد، أو أطلت عليهم تبعاً لسبك اللغة عند الناحلِ اللص. وللجاحظ مقولة يعرف فيها أنه مارس التزييف أوائل شبابه فكان يقول: «ربما ألفت الكتاب ونسبته إلى غيري فتتلقّفه الأيدي ويروج، وإذا نسبته إلى نفسي خشيت الإعراض عنه والتجافي». وهذه استخدمها الجاحظ وهو مغمورٌ غير معروف فكان سارق نفسهِ إلى غيره شريكاً في التزييف وقد استخدمت هذه الأساليب حتى في زمننا وثارت الفضائح حول أصحاب سلطةٍ ومال اشتروا أدباً وشعراً من مغمورين محزونين ونسبوه إلى أنفسهم ليكملوا أخطبوطيتهم حتى في حقل الشعر والأدب.

هل السرقة شرط؟

والسرقات الشعرية باب كبير يزعم ابن رشيق أن لا أحد يقدر أن يدعي السلامة منه، وهو مصيب إذا تم اعتبار أن كل تشابه سرقة، فالمواضيع البشرية واحدة من وصف وهجاء ومديح ونسيب ورثاء واعتذار والمعاني في هذه الأبواب متشابهه لا يكاد شاعر يأتي بمعنى جديد إلا وقد سبقه إليه سواه بلفظه أو أنه بدّل فيه ليضفي عليه خصوصية الأسلوب، هذا إلا فيما ندر، وقد مُيزت أنواع عديدة للسرقة تأتي بين العكس والإغارة والإلمام والاصطراف والاجتلاب والغصب وكثير منها.. تأتي حول سرقة شاعر بيتاً ونسبه إلى نفسه وتتنوع أساليب السرقة هذه حسب الطريقة التي اعتمدت للسرقة، وليس وارداً التفصيل فيها هنا لكونها تخصصية بحتة. وليس أشهر من هذه القصة بين امرئ القيس وطرفة بن العبد التي تورد مثالاً عن سرقة الألفاظ والمعاني وهي من أقبح أنواع السرقات، وهي أن يسطوَ الشاعر على ألفاظ غيره ومعانيه دون تغيّر، حيث يقول اِمرئ القيس:
وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطِيِّهُم يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَمَّلِ
وقول طرفة بن العبد :
وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُم يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَلَّدِ
وطرفة في بيته هذا عند معظم النّقاد سارق من اِمرئ القيس ؛ وذلك لأن اِمرأ القيس هو الأقدم زمنياً على الرغم من أن بعض النّقاد قد سوغوا صنيع طرفة، كأبي العلاء الذي سُئِلَ عن الشاعرين بأنهم يتفقان في المعنى ويتواردان في اللفظ من غير أن يلقى أحدهما الآخر فقال:
«تلك عقولُ رجالٍ توافت على ألسنتها».

الحافر على الحافر
ويقول المتنبي معلقاً على الأمر نفسه «الّشعرُ جادَّةٌ، وربما وقع فيه الحافر على موضع الحافر» وهذه السرقة محفوفة بسكاكين النقاد لا يلجأ إليها إلا كل من استسلم لقوّة الرد الذي ورد على لساني المعري والمتنبي وهو ما لا قِبل لكثيرين به، فحتى في الشعر الحديث وردت مواضيع السرقة الأدبية موضع اهتمام ومتابعة تحديداً بعد ازدياد عدد الوسائل والتوثيق الذي يسهّل عملية الكشف للمتابع المهتم، فحتى التناص كصنعة أدبية صُنف بحد ذاته شكلاً من أشكال السرقة الأدبية وتخفيفاً نسمّيه اقتباساً يتم فيه اعتماد الموضوع ذاته وروح اللغة وليس اللغة كاملةً، حتى إن هذا الأسلوب تدخل في جميع الأجناس الأدبية فالشاعر الراحل ممدوح عدوان طوّر الأداة معلناً أداة جديدة في مقدمة كتابه – مسرحيته (الفارسة والشاعر) الذي كان تكريمياً لصديقه الشاعر الراحل محمد الماغوط فيقول عن أداته الجديدة إن اسمها التلاص تمايزاً عن التناص فيقول: «رأيتُ أنني أفعل ما يفعله الممثّل الذي يحاول التماهي في الشخصية ولكنه يظل هو. أي إنني أردت تبنّي أسلوب الماغوط من دون أن أتخلى عن أسلوبي. إنه الشيء الذي يسميه النقاد الجدد «التناص»، ولكنني أردت أن أضيف كلمة التلاص أيضاً. فأنا قد سطوت على أشعار الماغوط وأدخلتها في النص».

السرقة والاحتراف
وهو جهد ينضوي على معرفة واحتراف حتى في فعل السرقة ناجم عن عملية تدوير يتم فيها استخدام اللغة والحرف والأسلوب والقفز بالجملة إلى حيث تقف في منتصف المسافة بين السارق والمسروق منه وهذه بذاتها تجعل الأديب أو الشاعر مقدّراً حتى في سرقته واعترافه، أما مع حالة العدمية المعرفية والتسطح الفكري التي تجتاح أصحاب الأقلام فتجعل واحدهم يقع بفعل السرقة من دون أن يدري مثلاً فيسرق صورة شعرية ربما من عبارة مكتوبة على باب باص عمومي للنقل، يقرؤها فتدخل في لا وعيه الحصيف فتكون منها شاعريته الفذّة، لا بل إن أغلب الحالات التي تحدث حالياً تكون بالمعنى الخسيس للسرقة، فنسمع عن سرقة مجموعات شعرية بأكملها منشورة في دول أخرى ونسبها إلى صاحبها، وهذه تعود إلى الفشل الذريع في التواصل الثقافي العربي مؤسساتياً، ويقابله الانفلات الكمي من التواصل اللاحكومي عبر الإنترنت ووسائل التواصل، واعتبار شعراء شباب كثر أن جدرانهم الافتراضية هي ساحات خربشاتهم ما يدفعهم لقول ما يجول في مشاعر، ما يدفع بالمتربصين وقليلي الموهبة إلى الاكتفاء بهذه الحالات والسرقات والنسب من دون رادع لأنه لا يوجد أي حقوق ملكية فكرة هذا إن سلّمنا بالجاهزية الدائمة للقضاء.