مطبّات شعرية… وعدم إمكان إيصال المعنى

مطبّات شعرية… وعدم إمكان إيصال المعنى

شاعرات وشعراء

الخميس، ١ سبتمبر ٢٠١٦

أحمد محمد السح

الجميلُ أن تقرأ شعر الآخرين وتهتم باللحظة التي اقتطعوا أرواحهم كلماتٍ على ورق وحمّلوها إرثاً وموسيقا، ومن المهم بالنسبة للقرّاء أن يزيدوا اطلاعهم حول الحالة الشعورية التي أوصلت الشاعر إلى قول قصيدته أو بيته الشعري، وهو ما يزيد الاهتمام حول جمالية تلقي المفردة ووقعها في النفس، ولكن ليس كل ما يمكن أن يقوله الشاعر يمكن أن يوثّق تاريخياً لمعرفة الشرارة التي أنبتت هذه القصيدة، فهو نفسه ربما يكون غير قادر على تحديد هذه الشرار، وتحديداً حين تنداح المشاعر والأفكار كلماتٍ قادمةً من عالم لا وعيه، وتعصر رؤيته وتصوّره، لا بل بشكلٍ أوضح انفعاله ورد فعله النفسي على حدثٍ وقع في نفسه أو في محيطه.

ولكن الحالة التي تصيب الشعراء في قصيدتهم تجعلهم ( في كلّ وادٍ يهيمون ) وهو ما اعتُبر مثلباً وتهمةً تصيبهم حول المعنى، وتحديداً إذا أريد للشعراء تقييدهم وكبح جماح مشاعرهم تحت أي مسمّى وتعبيد الطرقات التي عليهم أن يسيروا فيها، لا بل تجاوز الأمر حدّ تتبّع أخطاء الشعراء في قصائدهم منذ بدأت بواكير تفتّح النقد العربي، وهو ما كان يحدث بين شعراء وشعراء آخرين فيأخذون على بعضهم بعض الأخطاء ويعدونها على بعضهم عيوباً يتناقلونها، وتصبح أسساً للقادم من الشعراء يتحاشى التوغل فيها، وتعتبر القصة التي احتكم فيها الأعشى وحسان بن ثابت حول بيتٍ له عند النابغة الذبياني، فوجد النابغة فيه ثمانية أخطاء جاء لفظها مضعفاً لمدلولها ضمن هذين البيتين:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ولدنا بني العنقاء وابن محرق فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا عما
وهذه القصة ننطلق منها لنجد أن ضرورة الوقوف أمام عدم إمكانية الشاعر على إيصال المعنى الذي يريده إلى المتلقّي، يكون أحياناً بسبب ضعف أدواته الفنية ونقص معرفته أمام معرفة المتلقي، فالنابغة هنا أكثر فصاحةً من حسان، فأمسكه في هذا البيت ولم يترك له منفذاً، ولكن النقاد والمتابعين لم يكن لهم هذه السيرة في تتبع أخطاء الشعراء قبل البحتري وأبي تمام كلّ لسببه، فالبُحتري سارَ على عمودِ الشِّعرِ وكانَ كغَيرهِ من الشُّعراءِ فتناول النُّقادُ أخطاءَهُ وعيوبَهُ كما تناولوا أخطاءَ وعيوبَ من سبق، ولكنّهم أجادوا في تتبّع ديباجته التي كانت ساحرة وسابقة لعصرها. وأبو تمّام تمايز عن عمودِ الشِّعرِ وغلبَ البديعُ على شعرهِ، ونشرَ الغموضَ في معانيهِ، فاختلفَ بذلكَ عن غيرهِ من الشعراء فكثُرَ تَبَعًا لذلكَ حديثُ النُّقادِ في أخَطائهِ وعيوبهِ. وهو ردّ عليهم بأن قال: (لم لا تفهمُ ما يُقال) وهو ردٌّ قاسٍ مشابهٌ لقول الفرزدق حين كثر متتبعوه فقال لهم: «علينا أن نقول، وعليكم أن تتأولوا». وهذا الرد يعتبر هروباً من الشاعر لا بل تعالياً على من أراد تتبّع أخطائه ومحاولة منه لاعتبارها حالة تمسّ شخصه لأن الشعر يدخل في بنية الشاعر النفسية والتكوينية وهو لم يقبل عبر تاريخ التوثيق للشعر أن يقال عنه إنه أخطأ في قوله هذا أو وقع في مطبٍ هنا، لا بل ذهب الشعراء إلى اعتبار حالاتهم الشعرية كلاماً لا يمكن المساس به، لا بل إن عدم وصوله إلى المتلقّي يجد فيه دليلاً على أسبقيّته على أبناء جيله، وما شعره إلا غموضٌ لن تحله سوى أجيالٍ من خارج هذا الزمن. ولا شكّ أن وقوع الشاعر في أخطائه يتناقص مع المراس والتجربة لا بل إنها تختفي إن وجدت مع تبلور شخصيته الشعرية، وهذا التبلور يأتي من تطور قناعته وقدرته على القول والتعبير، وأجد مثالاً فريداً للشاعر فايز خضور يعترف فيه حول هذه النقطة بالذات، ويوردها على غلاف كتابه الأعمال الكاملة – الجزء الأول حيث يقول حين سئل عن عدم حذفه للمنخفضات من شعره حين جمع أعماله الكاملة فقال: «إن الهنات التي ترونها أنتم هكذا، تعتبر أدوات أساسية في إكمال البناء العام، للعالم الشعري الخاص بصاحبها، وتوثيقاً للمراحل التجريبية في هيكلية القصيدة الجديدة. وبمعزل عنها لن تستطيعوا رؤية الشاعر في تغيّر أحواله في سقوطها وسموّها وأفقيتها…» وهذا الرأي يعتبر شديد المعاصرة والحداثة، ولكنه يعتدّ به الشاعر المتمرس الذي لا يقل عن فايز خضور أو أبناء جيله حول هذه النقطة، ولذا ليس من حق عديمي الموهبة أن يعتبروا أن أخطاء بداياتهم الشعرية تشفع لهم في البقاء بسمة شعراء لكونهم يريدون الاحتفاظ بتغيّر أحوالهم لا بل إنهم سيمسكون حالة واحدة هي سقوط الحالة الشعرية عندهم، ثم انتزاع صفة الشعر عنها لتبقى حالات لا جدوى منها، يمكن لأي عابر أن يعبّر فيها عن حاله ولا حاجة هنا لوجود شاعر. وهنا يجب التمييز بين حالتين فيهما أن بعض الحالات التي تدفع الشاعر إلى الخطأ هو همزة الإبداع فيأتي الخطأ أو الميل عن الصواب مقبولا لكونه يعطي القوة للبيت ربما لفظاً أو معنى وهنا حسب نوع هذا الميلان، ولكنه يغفر تحت بند أنه (شاذٌ لا يقاس عليه) ولكن على الضفة الأخرى يكون الخطأ ناجماً عن جهل مطبق من الشاعر بمعنى اللفظة أو القاعدة النحوية والإملائية التي يخطئ فيها، وهو أمر غير مقبول، لا بل إن كثرة ورود هذا النوع من الأخطاء تعني أن الشاعر يخرج من حالة التصنيف بين مجموع الشعراء، فكثيراً ما يقوم الشعراء المعاصرون باستخدام كلمات عامية، تكون ذات جذور غير عربية، أو يدخلون أل التعريف كسابقةٍ لفعل وهذه ليست مستحبة لكنها من الممكن أن يتم تقبلها ضمن السياق النصي للفعل أما أن تدخل أل التعريف إلى كلمة (غير) وليس إلى الكلمة التي تليها بسبب جهل الشاعر للقاعدة النحوية فهو أمر لا يتم التهاود معه، لأنه ليس مع الجهل هوادة.
فليس عيباً أن يحاول من عايشته لعنة الشعر أن يسعى لاستكمال معرفته وتطوير نفسه مع الصعقة الشعرية الأولى التي يتلقّاها، فليس هذا بعيب، وليس ضعفاً، لأن الخطأ هو خطأ في الشعر سببه الشاعر لا خطأ يمس كينونته، فمهما تستر على أخطائه ونامت أعين النقاد عنها، فهي ستصل إلى الكشف لا بل ربما تخلد أخطاؤه، ويذهب بها جميل شعره إلى النسيان.