رمضان بين الماضي والحاضر.. أين إختفت بركة الشهر ؟

رمضان بين الماضي والحاضر.. أين إختفت بركة الشهر ؟

شعوب وعادات

الأربعاء، ١٦ يوليو ٢٠١٤

 في شهر رمضان، وحينما تحاول الذهاب إلى "السوق"، عليك أن تعلم أنك تذهب الى ضجة مجنونة لا تعرف الرحمة، فرخاوة خطوات المارّة تجعلك تفكر أنّ كائنات وسط البلد فقدت إحساسها بجاذبية الأرض وهي على وشك التحليق من خفة الكائن التي لا تحتمل، وأنها على وشك الإرتماء على صدرك من ثقل الصوم ومعاناته.
عليك أيضاً احتمال حالة النزق والجشع التي تصيب الباعة، وعدم احتمالهم لأي سؤالٍ مقترحٍ حول البضاعة ونوعيتها، لا لشيئ سوى أنّ البائع صائم. وعليك بناءً على كلّ هذا أن تختار الوقت المناسب قبل أن يصل السوق إلى لحظة الذروة.
وفي شهر رمضان، وحينما تحاول بعد الافطار أن تتخلى عن مشاهدة الدراما، وتذهب الى شارع الثقافة كنوعٍ من محاولة تمزيق رتابة الأيام، فإنك سوف ترى المدينة كلها وقد تحولت الى نرجيلة تصطف أمام الطاولات بانتظار الزبائن، الذين أمضوا النهار الرمضاني بانتظار التهام مبسم النرجيلة ونفث "المعسل" المطعم بكل النكهات.
واذا كنت من المحظوظين فستكون هناك مباراة "المونديال"، لأنك ستشاهد جنوناً جماهيرياً لا يصدق!!
في رمضان الحالي حيث الخيم الرمضانية وحفلات الرقص والغناء والبذخ وكل هذا الجنون الجمعي، تحس بحرقة التشوق لوقار رمضان الطفولي البهي.. وتحزن!!
نحزن لأننا كبرنا ومرت الأيام، وعرفنا أنّ هناك وجهٌ آخر لشهر رمضان، غير تلك الحلاوة وتلك الرائحة وهذا الجو الجميل، وجهٌ آخر خجول وطيب، وجه كريم عفيف يسرع إلينا ويمد يديه، ويحاول أن يعطينا عطية ونحن لا نلتفت، يقبع في سكون ويظلل علينا وينتظر أن ننتبه لجماله ونحن لا ننظر إلا للزينة، هذا جلّ ما نريد أن نراه.
لا عيب أن نفرح، لكن للأسف هناك من لا يرى شهر رمضان بين خيمة رمضانية بها من الموسيقى والرقص والهلس والشيشة والدخان ما يكفي لخلق ضباب كثيف، حتى لا نرى الوجه الجميل ومسلسلات وبرامج تلتهم الوقت التهاماً بين مسابقات بين الفنانين والفنانات... ولقاءات ومقالب وفكاهات وكأننا صرنا كالتائهين لا نجد شيئاً يشغلنا، فأتوا لنا بما يلهينا لنجلس أفواهنا فاتحة وآذاننا صاغية.
نحزن لأن أموراً كثيرة شخصية واجتماعية واقتصادية وأخلاقية، مزّقت شمل الأسرة، وما أجمل أن يكون الشهر الفضيل موسماً للمّ شملها، الوالدين والأولاد، الإخوة والأخوات والعمات والخالات والأعمام والأخوال.. وأولادهم وأحفادهم وأصهارهم. وقد لا يجتمع هؤلاء جميعاً إلا في المناسبات النادرة، حتى أنّ بعض أسرنا تفككت ويبقى الرباط بينهم - كما في بعض الدول - بطاقة بريدية كل عام، أو رسالة نصية قصيرة، وهم يعيشون في مدينة واحدة.
أين هي اليوم بركة شهر رمضان، التي كنا نتذوقها مع أول يوم فيه حين تجتمع الأسرة كلها على مائدة الإفطار، وأذكر جيداً فرحتنا ونحن نجلس حول المائدة وبأيدينا بعض حلواه المفضلة التي منعنا عنها الصيام.. وأطباقنا الفارغة في انتظار الطعام! جرْيٌ وضجيجٌ مختلف كانت تختلط فيه أصواتنا، ولثغاتنا المحببة، في اجتماعٍ أشبه باجتماع العيد! وأعيننا تضحك سروراً وفرحاً، وغبطة ورضىً بهذا الجمع والحشد الأسري الكبير الذي أتى به شهر رمضان منذ أول أيامه، بعد أن فقدناه في زحمة الحياة.
لم يكن يخلو يوم من أيام شهر رمضان إلا وللأهل صحبة فيه، ولنا نحن الأولاد حينها حضن قادم إلينا يشاركنا ساعة الإفطار، نترقب وصول الجد والجدة، وبفرح غامر وإحساس لا يوصف، كنا نتنازع فيما بيننا أيديهما، فالكل يريد أن يستأثر بالجلوس بجانبهما، وكأنهما الملك والملكة..!
هكذا كانت الأسرة في الشهر الكريم، وما زالت بعض الأسر على هذا الحال وإن كانت قليلة، وفي ظني أن هذا السلوك لا يقل أهمية عن الصيام! إنه سلوك تربوي رائع يغرس غراس الصلة ويبذر بذور الحب والتراحم بين أفراد الأسرة الواحدة، ويحدث التآلف والترابط بين فروع شجرتها الكبيرة وجذورها وأوراقها وثمارها، من الجدود والأولاد والأحفاد والأرحام، فيأتي بالجسد الواحد، والمجتمع الواحد، والأمة الواحدة!